لماذا هذا الخوف والوجل من الكتابة وفيَّ الآن الرغبةُ العميقة في الكتابة؟ لأنّ الكتابة كانت هي الحدث الأكبر والأخطر في تاريخ الوعي البشري، فقد ارتبطَت بالزمن وبالمقدَّس.
ارتبطت بالزمن لأنّها هي التي ابتدعته؛ فعندما كتب الإنسان أوّل رسم على الجدران، صار له ماضٍ، صارت له علامات مادية يعود إليها وتُحدّد له الزمن الماضي، وفي تلك اللحظة بدأ يعي حاضره المميّز.
وارتبطت بالمقدَّس؛ فكلّ الديانات التوحيدية تُقدّس الكلمة والحرف المكتوب، بل هكذا كان الأمر لدى الفينيقيّين، والكتَبة في مصر القديمة Script هم الرهبان، واستمرّ الأمر في العصور الوسطى، ولليهود والمسلمين كلامٌ طويل عن خصائص الحروف وقدراتها السحرية.
كلُّ هذا مترسّب في لا وعينا الذي يشمل تاريخ البشرية السحيق؛ وكلُّ هذا يحضر بشكل غامض عندما نفكّر أو نهمُّ بالكتابة.
أيضاً ثمّة أمرٌ خطير آخر يتمثّل في أنّ للكتابة بعدَين: خارجيٌّ وداخليٌّ في الآن نفسه.
البعد الخارجي هو التواصل مع الآخرين، وبالتالي تنظيم علاقات الناس في اجتماعهم الإنساني. أمّا الداخلي، فهو عندما يُمرّر الإنسان حياته الباطنية عبر الكلمات، وهنا تكمن اللحظة المُخيفة؛ لحظةُ تكشُّف الذات لنفسها.
من هنا ربّما نشأ ذاك الهروب الدائم من الكتابة.
لكن على النقيض من ذلك، فعندما يستقرّ الإنسان في روتين الكتابة يشعر بلذّة لا مثيل لها. أتذكّر عندما غطستُ في كتابة نصّ "الإسكندرية"، كانت الصور والأفكار والتأمّلات والخيالات تترى متتاليةً؛ كانت تنتابني، تُفاجئني في لحظات غير منتظرة. وكنتُ إذا ما غادرت البيت أرغب في العودة بسرعة إلى غرفتي ومكتبي لأغرق في النصّ الذي تحوّل إلى قوّة تتملّكني. وهذا ما جعلني أعي بعمق، ومن طريق التجربة، أفكار كارل غوستاف يونغ؛ العالم النفسي أبِي التنمية البشرية، الذي يُلحّ على تواصل الإنسان مع لا وعيه، ودعوة جوليا كاميرون إلى كتابة صفحات الصباح؛ وهي دعوة للاستقرار في الكتابة، لتحريك مياه الأعماق بواسطة التكرار، للتواصل مع لا وعينا ذاك العالم الغامض، منبع كلّ كتابة، لأنّه يعبّر عن حقيقتنا الشاملة، الفردية والكونية في آن واحد، عبر صور لا عقلانية بيد أنها حقيقية.
يساعدنا ذاك التواصُل على العبور من حالة الإحساس بالحسر واجترار الكتابة في الدماغ، التي تُخلّف إحساساً بالعجز يتحوّل مع مرور الوقت إلى احباط شديد يُفضي إلى عدم تقدير الذات، الذي يُطفئ كلَّ جذوة إبداع لدينا. لحظتَها يبدأ الكاتب محنة عبور الصحراء، عندما صمت بول فاليري عشرين سنةً عن كتابة الشعر ثم عاد برائعته "بارك الشابة"، وبارك إلهة يونانية.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام