عندما وَلَد المِلح أُمّي

03 يونيو 2024
جزء من لوحة بعنوان "جُمعة" للتشكيلية الهولندية بيغي كويبر، أكريليك على كتّان، 2021
+ الخط -
اظهر الملخص
- الأم تتذكر زيارتها الأولى للبحر في طفولتها بخوف، بينما تروي الابنة تجاربها الممتعة مع البحر في طفولتها، معبرة عن فرحها ولعبها مع بنات عمها.
- تخوض الأم تجربة السباحة لأول مرة في سن الثالثة والأربعين، مما يمثل تحولاً كبيراً في حياتها وعلاقتها بالبحر، بينما تبدأ الابنة بالشعور بالخجل من البحر وتتوقف عن السباحة.
- تتحول علاقة الأم بالبحر من الخوف إلى الشغف والتقبل، في حين تجد الابنة نفسها تتوقف عن السباحة وتفضل البقاء بعيدة، مما يعكس تغير الأدوار والتجارب بين الجيلين.

تُخبرني والدتي مُتحدّثةً عن رحلتها الوحيدة إلى البحر عندما كانت طفلة: "كانت عائلةُ فلان تسكن الناظور، حيثُ قضيتُ عطلة صيفيّة كاملة في منزلهم، حينها رأيتُ البحر أوّل مرّة، فلم أقترب كثيراً...". لم يُلامس جلدَها ملحُه، لم تخُض بوجهها في موجه، لم تلسَع جسدَها برودتُه، ومن يومها لم تزُره مُجدَّداً. انتظر منها ذلك ثلاثة عقود، وعندما كانت في مطلع سنوات الأربعين، وَلدَها البحر ثانيةً، حين رأته أخيراً.

زرتُ في طفولتي البحر أكثر من مرّة، بل تجاوز عدد تلك الزيارت أصابعي العشرة. كنت أبِيتُ الليل وبنات عمّي مُرتدياتٌ مايوهات السباحة، مُتوسِّداتٌ مناشفنا، يَحُول الفرحُ بيننا وبين الغرق في النوم، ولسعادتنا كنّا نكاد ننام واقفات، فينقلب ليلُ الكبار كابوساً؛ نضطجع ساكناتٍ تحت نظرات عيونهم الصارمة، يقبّلوننا من عيوننا ويرحلون، وما إن يستكينوا إلى وسائدهم الوثيرة، حتى تُعيدهم ضحكاتنا المكتومة من لُجّة النعاس. 

في الصباح، ومع أوّل نداء "يا بنات استيقظن"، يجدوننا في مقابلهم واقفات بوجه يسرق إرهاقَه الفرحُ. وفي كلّ مرّة قبل ذهابنا صوبه، تُقبّلني والدتي قائلة: "بالصحّة!".

أعود نصف مبتلّة، تُقبّلني من عيني وتقول: "بوسة مالحة"

لم تكُن ترافقنا قَطّ إلى البحر، لم يسألها أحد قَطّ عن رغبتها في رؤيته. أعود مُتعَبةً آخر النهار، تسألُني: "كيف كان البحر هذه المرّة؟". وفي كلّ مرّة أُجيبها: "مالحاً" تلعَق خدّي وهي تضحك لملوحته، ثم تنغمس في فكّ اشتباك شعري وتغسله ممّا عَلق به من حبّات الرمال. 

في سنِّ الثالثة والأربعين، ذهبنا معاً للمرّة الأُولى، لم تُشبه دهشتُها لرؤية البحر، وهي بالغةٌ، تلكَ الدّهشة الشريدة التي عاشتها في طفولتها؛ أدركَتْ لحظتها أنها كانت تُرسلنا طواعية إلى مكان بإمكانه التهامُنا، وفي كلّ مرّة كنّا ننجو بأعجوبة ونعود إليها سالماتٍ. حاولنا يومها إقناعها بأن تقتربَ قليلاً منه، بأن تُبلّل قدميها، غير أنّ الرفض ظلّ جوابها دائماً، رادَّة ذلك إلى هواجس مجهولة تعتلج في قلبها. فكانت تكتفي بمراقبتنا فقط، وعندما نبلغ العُمق الذي تخفى فيه سُرَرُنا عن نظراتها، تبعث في طلبنا أيَّ غريب يأتي في طريقها، من دون أن تتحرّج من ذلك، بعد أن أُجهِد صوتُها في ندائنا؛ عندما يتجاوز الماءُ السُّرَّةَ تغرق هي على الشطّ، فوق كرسيها، تختنق.

بعد خُروجنا إليها ناجياتٍ من ذلك الغرق المُتخيّل، ثلاثتُنا مجتمِعات، تُقسِم بألّا تتركنا نعود إليه ثانياً. نصطفّ بجانبها بوجوه يملؤها الكدَر، فترتسم على وجهها راحةٌ ربّانية، لنهُمَّ بالرجوع أدراجنا إلى البيت، بنِصف نار مُطفأة، انتظرتْ حولاً كاملاً فرصة البلَل هذه لتخبو من دون أن يتسنّى لها ذلك. أصبحت تلك الرحلات شبحاً مُرعباً، يَحُولُ بيننا وبين البلَل المَرجوِّ، نعود كي يغسل كلُّ واحد منّا ملحه وحده، من دون مساعدة منها، هي التي عادت حبَّات الرّمل المُترسّبة قُرب أقدامنا موضوعَ كراهيَتها، وكأنّنا بذلك نُحضِر لها بحراً صغيراً إلى البيت.

أدركَتْ لحظتها أنها كانت ترسلنا طواعية إلى مكان بإمكانه التهامنا

صرنا نتحاشى مُرافقتها إلى البحر، وفي المرّات التي ننتهز فرصة الذهاب مع أقراننا لا تتوقّف عن طرح الأسئلة: "مَن سيذهب؟ يُجيدون السباحة حقّاً؟ كم تتراوح أعمارهن؟... اتركي لي رقم فُلانة، قريبتُها قد جرَفها السَّيلُ قبل عشر سنوات، حتماً إنّها تخاف البحر، وستظلُّ بعيدةً على الشاطئ من دون أن تخوض في بلَله، تحرس لكنّ متاعكنّ من أيدي اللصوص… سأتّصل بها على رأس كُلّ ساعة لأطمئنَّ، سأُوصيها أيضاً بأن تحرس سُرَّتَكِ من أن يتجاوزها الماء، سأُجنُّ إذا تأخّرتِ في الردّ، أعرف سُرَّتَكِ جيّداً، إذا تجاوزتها المياهُ المالحة، فسأعطش لحظتها، وربّما سأختنق، كأنني أنام وسطها، لا تُجازفي بي". 

أمضي إلى البحر الذي أُحبّ وتخافه والدتي، أعود نصف مبتلّة، تُقبّلني من عيني وتقول: "بوسة مالحة!". 

قبل سنتين، اتصلَتْ بي وقالت: "غطستُ كاملة". كان ذلك خلال رحلتها الصيفية إلى المدينة الساحلية، لم أُصدّقها أول الأمر، فَرُحْتُ أسأل للتيقُّن، حتى أكّد لي شقيقي: "لقد فعلَتْ ذلك حقّاً". 

قالت إنّها ظلّت تُقبّل كفَّ يدها وتلعقُها لتستلذَّ بمُلوحتها بعد أن خرجت من المياه مُبتلّةً، أخبرتني بأنّها نادمة على كلّ المرّات التي فوّتت فيها فرصة مُعانقة البلَل المالِح. لكن، ومن يومها، تغيّرتْ رائحتُها التي أعرف، وكأنّ البحر أعاد إنجابها من جديد، وعند عودتها إلى البيت، قبّلتُها كما كانت تفعل معي، لعقتُ خدَّها، قائلة: "بوسة مالحة!". 
 
لم أَسبَحْ في البحر منذ سنتَين تقريباً، أصبح خجلي من مائه يزيد مع كلّ زيارة، توقّفتُ عن الخوض في ملحه وموجه، صرتُ أكتفي بالرمال، حيث أجول بتلك النار التي تلفَحُني بقُربه، أُراكم العواصف في صدري. وكلّما حاولتُ الاقتراب منه خاطبني قائلاً: "هل تخافين؟". أُجيب بقناعة: "أعِدْ إليّ رائحة أُمّي، وسأهَبُ لك مِلح الدنيا".

لسنتين نتساوم، أنا والبحر، وهي في كلّ مرّة تعود منه، تقول لي: "سَلّمَ عليكِ البحر. العجب! لقد زاد ملحُه!".


* قاصّة من المغرب

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون