أنهى حليم فنجان قهوته المُرّة جدًّا مع نفحة التبغ اللتين ارتشفهما على شُرفة مقهى يُمنع التدخين داخله، في مساء ذي برودة لطيفة، من تلك المساءات التي صرعت الأدب والفن برومانسيات فصل الشتاء. دخل لكي يُعيد الفنجان إلى النادلة التي صنعته له على أمل أن يحصل منها على ابتسامة شكرٍ عابرة.
وضع الفنجان على المنضدة أمامها، وأحسّ بحاجة لاستعمال المرحاض، كأنّ في ذلك حجّة لسماع إجابة صوتية من النادلة إلى جانب ابتسامتها.
"أين المرحاض لو سمحتِ؟".
لكن ما إن أنهى سؤاله، حتى انتبه إلى الحائط بجانب المنضدة عليه رمز المرحاض مع سهمٍ يُشير إلى الأسفل نحو الطابق السفلي للمقهى.
"عفوًا؟". سألته النادلة وهي تأخذ الفنجان من أمامه بلا أي ابتسامة أو كلمة شكر.
"لا بأس. لقد أجابني الحائط عن سؤالي".
قالها متصنّعًا ضحكة ثقيلة، ظانًّا أنّ نكتته السخيفة ستنتزع ابتسامة بدل تلك التي اعتبر نفسه أنّه استحقّها عن جدارة.
هزّت رأسها وقالت "حسنًا". وذهبت إلى شأنها.
قال لنفسه مُراضيًا إيّاها: "إنّ النهار في آخره ولا أحد في هذه المقاهي يُحبُّ زبون المساء. لعلَّ نهارها كان طويلًا". نظر إلى الحائط الذي أجابه يتواسى به كونه كان لطيفًا معه في هذا الأخذ والردِّ فلم يجد رمز المرحاض والسهم، بل عقارب ساعة مثبّتة على الحائط تُشير إلى رموز مرسومة على الحائط تقول إنَّ الساعة السابعة مساءً.
مؤمّلًا نفسه أن يحصل منها ولو على ابتسامة شكرٍ عابرة
التفَتَ بحثًا عن الرمز الذي كان متأكّدًا أنّه رآه لكنّه لم يجدْه. أصبح بحاجة ماسّة لاستخدام المرحاض، فسّر اختفاء الرمز عن الحائط بعدم قدرته على التركيز، هبط الدَّرَج مسرعًا وتوجّه إلى بيت الراحة، ارتاح وغسل يديه وصعد الدرج ببطءٍ متوجهًا إلى الطابق العلوي ببطء.
رأى من الأسفل رجلًا ينظر إلى الحائط بتمعّن. بدا الحائط فارغًا لحليم من الزاوية التي كان يصعد منها. قطع الرجل تمعّنه وقال للنادلة مشيرًا إلى الحائط: "سآخذ فنجان كابوتشينو لو سمحتِ". قالها بالتزامن مع وصول حليم إلى رأس الدرج، وانصدم بخلو الحائط من كل شيءٍ فيه؛ فلا الساعة ولا رمز المرحاض ولا أي شيءٍ آخر يُفسّر سبب إشارة الرجل نحو الحائط.
نظر حوله مستفسرًا عن هذا الخلط. لكن، لم يعلم مَن يسأل بل وماذا يسأل أصلًا. وقبل أن يصل إلى نتيجة باغته صوتُ النادلة سائلًا: "هل تحبّ أن تتناول أو أن تحتسي شيئًا يا سيّد؟".
كان حليم قد قرَّر الرحيل مسبقًا، لكنه الآن بدأ يعتريه الفضول وأراد البقاء في مكانٍ يرى منه هذا الحائط، ليفهم ماذا يحصل بحقّ السماء. ولأنّه اكتفى من كمّية القهوة التي تناولها في ذلك الوقت من المساء سأل ماذا لديهم غير القهوة. "يمكنك الاطلاع على لائحة المشروبات والطعام هنا". قالتها مشيرة إلى الحائط حيث ظهرت فجأة لائحة كاملة عليها كلُّ ما يقدّمه المقهى مع الأسعار أيضًا.
"ما هذا!"، صرخ بذعر.
"ظننتك على علمٍ بهذا يا سيّد. هذا الحائط يُجيب عن كلّ الاستفسارات المتعلّقة بالمقهى". لم يفهم، سأل: "أي نوع من الاستفسارات؟". أجابته بتأفُّف من أجاب هذا السؤال مئات المرّات: "أي شيء له علاقة بالمقهى، ساعات العمل، أسماء العاملين، لائحة الطعام، موقع المرحاض، حتى المواد التي صُنِعَت منها هذه الفناجين".
التفَت إلى الحائط مجدّدًا، عاد إلى فراغه لأن لائحة الطعام لم تعد ما يشغله.
"أي شيء؟"، سأل.
"نعم، أي شيء"، أجابت.
فاقترب قليلًا نحو الحائط. التفت إلى النادلة وهو يهمس إلى نفسه: "أي شيء". نظر بتمعنٍ إلى الحائط الفارغ وقال: "ما اسم النادلة، وهل أستطيع دعوتها على العشاء أم أنها مرتبطة بعلاقة مع أحدهم".
قبل أن تكتمل الإجابة على الحائط استشعر وقوف امرأة غريبة من على كرسي لطاولة تُقابل المنضدة. تمتمت لنفسها قبل أن تكمل وقوفها وقالت: "آه ليس مجدّدًا"، أمسكت بحليم من كتفه وأدارته نحوها، ولما التقت أعينهما قالت له: "سيدي، أنا صاحبة ومديرة المقهى، وعليّ أن أطلب منك رجاءً المغادرة فورًا"، ومجدّدًا لم يرَ السائلُ نصَّ الإجابة عن سؤاله.
* كاتب من الأردن