خلق شخصية تسويقية للمدينة مفهوم ذو أهمية وإن كان تفسيرُه إشكالياً، بخاصة من حيث إمكانية تطبيقه على حالة المُدن. ورغم جِدّته فإنّه أصبح حتمياً لأيّ مدينة تسعى للنمو والتطوّر في العالم المعاصر. التساؤلات المهمّة إذن كيف تخلق المدينة شخصيتها؟ كيف تسوّق المدينة نفسها؟ إذ صارت عادية استعانة المدن بخبراء تسويق عالميّين لصياغة الاستراتيجية التسويقية لمدينة ما. فالمدن تكوّن انطباعات بصرية ذهنية تميّزها عن أُخرى بالتركيز على ما تملكه، وبالتخطيط لإضافة أبعاد جديدة لشخصيتها المعمارية والعمرانية.
تأسس هذا المفهوم بفعل مجموعة من الأطروحات النظرية المعاصرة، التي مهّدت لحقبة جديدة في تفسير نجاح المدن، ومن أبرزها الفكر التنموي الذي صاغه المخطّط والباحث في مجال دراسات التنمية ريتشارد فلوريدا Richard Florida. بدأ مشروع فلوريدا الفكري بكتابه "نشأة الطبقة المُبدعة" (2002) The Rise of Creative Class، وتناول فيه طرحاً جديداً لفهم نسيج المجتمع الإنساني في حقبة ما بعد العولمة. فالعالم قد تجاوز تلك الحقبة وأصبح تواصُل الأفكار، والأسواق والاستثمارات وانصهار الحدود المكانية والجغرافية سمةً غالبة تشترك فيها كلّ المجتمعات المتقدّمة، وكذلك الساعية إلى حياة أفضل.
وفي كتابه التالي "ما مدينتك؟" ?Who’s Your City، يضيف فلوريدا قراراً جديداً نابعاً من تداعيات مجتمع ما بعد العولمة، وهو قرار أين تقيم؟ وفي أي مكان على خريطة العالم تنوي أن تختار وطنك الجديد؟ وهذا وثيق الصلة بظهور ما يُسمّى بـ"المواطن العالمي"، أو ما أطلق على عمّال المعرفة Knowledge Workers نسبة إلى أصحاب العقول المجدّدة التي تعتمد على مساهمتها في القطاع المعرفي، أو بالأحرى مجالات الاقتصاد المعرفي كأساس لنجاحها المهني، وهذه الظواهر هي التي دفعت فلوريدا إلى أن يحذّر من أن هروب الطبقة المبدعة والمثقّفة من المدينة يؤدّي إلى وفاتها، وفقاً لتعبيره.
لا تكتفي المدينة المعاصرة بمحاورة سكّانها بل العالم
وتصوغ هذه الفئة تصوراً للعلاقة مع جغرافية المكان يتجاوز الأبعاد العاطفية، التي تجعل البعض يتمسّك بموطنه الأوّل، وتجعل قدرته على التحرّك محدودة ومقيّدة بنطاق جغرافي معين، قد لا يتجاوز في بعض الأحيان عدة كيلومترات من مكان ميلاده ونشأته - كما هو الحال مع قطاعات كبيرة من المجتمع العربي. ومن سمات هذه الفئة أيضاً أنها شديدة الحيوية والديناميكية، لها تطلّعاتُها وآمالها في المكان الذي تختاره وطناً وفضاء لإطلاق العنان لقدراتها التجديدية والإبداعية في عصر الاقتصاد المعرفي والإبداعي الذي يتأسّس على قيمة الأفكار. ومن ثم فإن ظهورها انعكس على الفكر التخطيطي والعمراني، طرحته الأدبيات تحت عنوان "التنافسية العمرانية".
هنا، لم يعد قرار الهجرة أو الانتقال إلى مدينة أو دولة جديدة شرطُه الوحيد العائد المالي الأوفر، ولكن بالنسبة إلى عمّال المعرفة أصبحت المنظومة الاقتصادية المكانية البيئية للمدينة هي المؤسّسة لمجموعة المعايير الأكثر ملاءمة لإيقاع عصر الاقتصاد المعرفي والإبداعي. وفي السياق ذاته ظهرت آليات ومناهج في سياسات تسويق المدينة، ولترسيخ وجودها على مسرح عالمي متنافس، وحده الإنسان له فيه حق اختيار غير مسبوق بفعل تعرّفه اليومي، بل اللحظي إلى كلّ ما يحدث في عالم اليوم الذي لم يصبح قرية صغيرة فحسب، بل عالم تفاعلي تعرف وتشعر فيه - شعوراً لحظياً - بما يحدث فيه، حتى لو على بُعد آلاف الأميال من مكانك المادي الفعلي.
الأكثر راديكالية في سياسات تسويق المدينة أن تُحوّل إلى ماركة، أو شخصية تجارية تؤثّر في وعي الناس، وتحوّلهم من مجرّد معجبين بها إلى مُناصرين لها ومدافعين عنها، بل مسؤولين عن إقناع الآخرين بتكوين أفضل الانطباعات الفكرية والتخيّلية عن المدينة. صياغة شخصية تسويقية مميّزة لها قيمة رمزية، فهي عملية تتطوّر في عدة مراحل، أولها الوعي بالمدينة ولفت الانتباه إليها، وصولاً إلى الإيمان بها والدفاع عن مكانتها وقيمتها، بحماسة نرصدها بوضوح في حوارات الناس عن مدن مثل باريس ولندن ونيويورك. لكن تبقى التساؤلات المهمّة كيف تخلق المدينة شخصيتها؟ كيف تسوّق المدينة نفسها؟وللإجابة نطرح أهم الاستراتيجيات التي اتبعتها الدوحة لتحقّق رؤية المدينة لبناء شخصيتها المتميزة، وهي:
أولاً: القدرة على استقطاب الأحداث والفعاليات الجوهرية ذات التأثير العالمي
لم تعدِ المدينة المعاصرة تحاور سكانها المقيمين بها فقط، وإنما تمتدّ لتحاور العالم في عصر ثورة الاتصالات، والقدرة غير المسبوقة على التواصُل. وجزء هام في هذا التواصُل هو الانتقال إلى مرحلة استقطاب الآخر، من خلال القدرة على استضافة أحداث فنّية ورياضية وثقافية واقتصادية، تعمّق فكرة التواصُل والرغبة في الانفتاح على العالم. كما تؤكّد القيمة العالمية للمدينة، وتعيد صياغة عمرانها وعمارتها لتتمكّن من لعب هذا الدور العالمي. ويكفي أن نرصد هنا الحدّة التنافُسية بين مدن العالم لاستضافة الأحداث الرياضية العالمية مثل كأس العالم، أو الدورات الأولمبية. فالموثّق في كلّ الحالات السابقة، أن المدن التي سعَت جاهدةً إلى هذا المستوى من التنظيم وحصلت عليه، غيرت تقريباً من مستقبل المدينة، وتحوّلت أحياناً من مدينةٍ راكدة إلى مدينة نَشطة تستقطب الاستثمارات من كلّ أنحاء العالم في دورة اقتصادية ضخمة، لم تكن لتشارك فيها لولا النشاط الرياضي العالمي الذي تمكّنت من استضافته.
وقد تميّزت قطر في العقد الأخير بفوزها بالعديد من الأحداث العالمية في جوانب مختلفة. إن قدرة المدن المعاصرة على استيعاب الأحداث الرياضية الإقليمية والعالمية أصبح معياراً دالّاً على تقدّمها وتطوّرها، وإيجابية المناخ الحضاري بها بصفة عامة ومفهوم التنافسية بصفة خاصة. كما أنّ استيعاب المدن للأحداث الرياضية العالمية يعني قدرة على استقبال الآخر، وتقبّله واستيعاب اختلافاته وتمايزاته في جوّ من السلام والمحبة، وإدراك أن الرياضة هي النشاط الراقي الذي يجمع الشعوب في منافسات شريفة تؤكّد تحضّر الجماعة الإنسانية.
ثانياً: توظيف الرصيد المعماري والعمراني بشقيه التاريخي والمعاصر
ما تملكه المدينة من تراث معماري هو أداة جوهرية لتسويقها، إذا تم تفعيله بالحفاظ عليه أوّلاً ثم بتقديمه لخبرات جديدة للتفاعُل مع المكان من خلال إعادة توظيف هذا التراث كما فعلت مدنٌ عربية مثل فاس ومراكش بالمغرب. وبالقدر نفسه من الأهمية فإن ما سوف تملكُه المدينة في مشروعاتها المستقبلية يلعب دوراً حيوياً في تسويقها، فالواقع أن العمارة المثيرة المبدعة أصبحت من أهم أدوات التسويق العمراني للمدينة.
كان "متحف غوغينهايم" في مدينة بيلباو الإسبانية من تصميم المعماري الأميركي فرانك جيري بداية الشرارة لمنهجية جديدة تُعيد إحياء المدينة وتسويقها من خلال مبنى واحد يقدّم طفرة تشكيلية وجمالية وبصرية في عمران المدينة. واليوم أدركت المدن العربية هذا المعيار وهي تتنافس في استقطاب نجوم العمارة اللّامعين لترك بصماتهم على خريطتها المعمارية، فاقتربت لمساتهم من الشرق بعد اقتصار إبداعهم على المدن الغربية، وتوالى تدفّقهم إلى الساحة الشرق أوسطية بداية من فرانك جيري وجين نوفيل، وتادو أندو، ومايكل غرايفز وصولاً إلى زها حديد. وجميعهم يصوغون مشروعاتهم في المنامة والكويت، وأبوظبي، والدوحة.
تشهد لغة الدوحة المعمارية تنوّع توقيعات محلية وعالمية
والواقع أن المباني التي شكّلت صورة مدينة الدوحة في الفترة المعاصرة، تتنوّع في لغتها المعمارية، حيث تحتوي المدينة على مجموعة متميّزة من المباني المعبّرة عن عمارة الحداثة، وعمارة التراث، وعمارة المصمّمين المعاصرين، مثل: جين نوفيل وريم كولهاس وزها حديد ونورمان فوستر، كما تحوي أعمال معماريين محليين أهمهم إبراهيم الجيدة ومحمد علي.
ثالثاً: تكثيف تميّز المدينة الطبيعي والثقافي والإنساني
قد يكون تميّز المدينة من خلال جبال تُحيط بها، أو أنهار تخترقها، أو من وجود المقوّمات الثقافية رفيعة المستوى، وخاصة المتاحف بأنواعها. وقد تكون بيئات التسوّق الجديدة التي تتجاوز الأفكار التقليدية، أو من خلال قدرة المجتمع الإنساني بالمدينة على الاحتفال، ووجود الفراغات العامة، والحياة التي تقدّمها المدينة من خلال تلك الفراغات وخاصة من حيث الاحتفالات والمهرجانات، والكرنفالات سواء كانت ثقافية، أو فنّية، أو شعبية، أو دينية روحانية. وحتى لو كان ما يميّز المدينة أسلوب التنقّل خلالها كما هو الحال في مدينة فينيسيا الإيطالية ذات القوارب "الجندولية" الشهيرة، أو بالعربات التي تجرها الخيول في وسط مدينة فيينا النمساوية، أو الحافلات الحمراء الشهيرة وهي تتجوّل في العاصمة البريطانية لندن. الجوهري هو القدرة على إظهار هذا التميّز في مشهد صياغة شخصية المدينة والتسويق لها.
رابعاً: صياغة شخصية للمدينة لها روافد تاريخية وطموحات مستقبلية
الهدف هو أن يكون المخطّط راصداً واعياً لمفردات شخصية المدينة، إذ تكون هذه العملية ديناميكية مستمرّة، تساندها المشروعات المعمارية والعمرانية، وأنماط الحركة وتميُّز الاستعمالات وتوزيعها، والارتكاز على المرجعية الإنسانية والبيئية للتنمية. لذا يتحقّق الهدف وهو خلق شخصية للمدينة ذات جذور تاريخية، وطموحات مستقبلية الهوية، بحيث تصبح المدينة مدينة للجميع، ونموذجاً للتنمية المستدامة التي تحترم حقوق وتطلّعات الأجيال القادمة.
جوهر الطرح، في هذا المقال (والمقالات الأربع السابقة)، أنه لا تمكن الاستهانة بالقيمة الكبيرة للموارد المالية التي أنفقتها قطر منذ إعلان فوزها باستضافة كأس العالم. ولكن المفهوم هو صياغة الحدث ليدور حول إنشاء إرثٍ ممتدّ، وليس ثلاثين يوماً من الاحتفال فحسب، كما استثمرت قطر هذه الموارد في تصميم وتخطيط وبناء المشاريع التي تمتدّ آثارُها لسنوات وأجيال قادمة. ويجعل هذا النموذج من تجربة قطر في استضافة كأس العالم فصلاً جديداً، ومختلفاً ومتميّزاً عن العديد من تجارب استضافة الأحداث العالمية.
* معماري وأكاديمي من مصر