انتشرت منذ القِدم ظاهرة الاتصال مع الغيب؛ كان الوسطاء بشراً عاديين، اكتسبوا أو أسبغوا على أنفسهم صفات روحانية، بعدما تحقّقت توقّعاتهم ربما في هطول المطر، أو عودة غائب، أو صيد وفير. اتخذت هذه الظاهرة موقعاً ذا دلالة في مناحي الحياة، فلا حرب تُشَنّ، ولا زواج يُعقد، أو خلاف ينشب، إلّا ويُستشار به الروحانيون؛ قد يكونون من كهنة المعبد، وحدهم لهم الحق بـ رؤية المستقبل.
ساد التنجيم وما زال، وهو نوع من معرفة الغيب، حتى أصبح له نصيبٌ في حياتنا المعاصرة، نلاحظه في نهاية كلّ عام أشبهَ بجائحة على القنوات التلفزيونية، إنه المائدة التي لا تخلو منها قناة، ومِن فرط انتشاره أصبح هناك من يزوّدنا بما سيحدث معنا طوال العام القادم، أو بالتقسيط كلّ أسبوع، بل كلّ يوم. يَسترشد بتوقّعاتهم الحريصون على حياتهم وأملاكهم وعواطفهم، وقايةً من الحظوظ سيّئة الطالع، وأحياناً تجنّباً لـ كارثة، قد تمنع المتطيّرين من مبارحة المنزل.
مجاراةً للتقدُّم الحضاري، لم يعد التنجيم روحانياً صرفاً، بات متشبّهاً بالعلم، فحساباته عِلمية، مستمدّة من حركة الكواكب والنجوم، حسب تبدُّل مواقعها وسيرها في الفضاء الكوني، ما يرسم ليس مصائر الناس فحسب، بل توقيت نبضات قلوبهم ولحظات الفراق التعيسة، والثورات المجهَضة، وسقوط الحكومات وتشكيلها، ما عدا إفلاس المصارف؛ تمنحها المصداقية مشاركة علم الفلك في الكشف عن الغيب، ويلاحقها البشر مهما اختلفت طبقاتهم ومشاربهم، لا فرق بين جاهل ومتعلّم، غني وفقير، ويلاحقهم كذلك مفكّرون وعلماء، مع أنهم أكثر مَن يسخرون منها.
طوال عصور، كان لانتشار ظاهرة الوساطة مع الغيب والتنجيم في حياة الناس، نوعٌ من العزاء، فالبشر ينزعون إلى الاعتقاد بما يتمنّون حصوله، وإنْ باتت مورد رزق واحتيال لبعض من أذكى الرجال والنساء الباحثين عن الثروة، فصاروا من بطانة الملوك والملكات والأمراء والعشيقات، إلى أن حلّت الجمهوريات فباتوا على مقربة من الرؤساء بأنواعهم؛ الديمقراطيون والدكتاتوريون يستشيرونهم في ما تنويه أحزاب المعارضة، أو المزيد من القمع.
لا يمكن الجزم مَن يتلاعب بمَن؟
في الماضي، بعد مطاردة الساحرات، وانتشار التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تراجعت هذه الظاهرة، لتستعيد في أواخر القرن التاسع عشر مكانتها لدى رجال الفكر والعلم خاصة، وانتشرت إلى حدّ شاع الاعتقاد بأن أرواح الموتى تعود إلى العالم المادّي، وتظهر للأحياء وتتواصل معهم، وتخبرهم بالماضي، مثلما تُعلمهم بالغيب.
عُزي السبب إلى الحرب الإسبانية، والحرب بين فرنسا وبروسيا أسهمت في ترسيخ هذا الاعتقاد، ورواجه شعبياً. فأهالي المفقودين انتظروا طويلاً دونما جدوى، ولم يكن من سبيل أمامهم سوى ما عُرض عليهم، وهو الاتصال بالغائبين، فحصلوا على معلومات، لم تكن أكثر من الانتظار أو اليأس من عودتهم.
أدى انتشار "الروحانيات" إلى أن التحق بهذه الظاهرة عددٌ من المفكّرين والكتاب والمثقّفين، المعروفين بأنهم الأكثر عقلانية في عصرهم، منهم الروائي الفرنسي فيكتور هوغو الذي حاول الاتصال بابنته المتوفّاة ليوبولدين، وابنه المتوفى، وبزوجته لويز وعدد من أقاربه. وفي بريطانيا، وجد السير آرثر كونان دويل، الذي أُصيب بالكآبة، عزاءَه في الاعتقاد بوجود عالم الأرواح، فدعم فكرة الروحانية وسعى لإيجاد دلائل تثبت وجود حياة بعد الموت، مع أن بطله شرلوك هولمز أنكر الأشباح وغيرها من الخرافات.
الظاهرة التي تستدعي العجب، إسهامُ محترفي التصوير في تنشيطها، والزعم بتصوير أرواح الأموات، ومن فرط ما كانت لافتة علمياً، اهتمّت بها الصحافة، فشاركت بها وتعيّشت عليها. كان التصوير يمثّل حداثة العلم، سارع ليبرهن عن صحّتها بالصورة، لا بالصوت فقط؛ فتعبير الصورة أقوى ويكاد أن يكون ملموساً.
لا يمكن الجزم مَن تلاعب بمَن؟ هل هناك من ادّعى العلم وأقنع الناس بها، أم أن رجال العِلم انخدعوا بعودة أرواح أقربائهم وأحبّائهم ومعارفهم، حتى إنهم استدعوا أساطين الفلسفة والأدب من الذين ودّعوا الحياة من عهد قريب أو من أزمنة سحيقة مثل شكسبير وميلتون ومارلو... لمقابلة الذين ما زالوا على قيد الحياة.
نعم، تُسهم الحروب في ترويج الغيبيات؛ عسى يعود المفقودون بعد انتهائها، ومن المؤلم وجود مَن يستثمر غيابهم، كما تعوّدنا خلال الحرب السورية، التي غاب عنها العِلم والعلماء وحضر المجرمون واللصوص، وتاجروا بالمعتقلين في السجون، وفي الضحايا الأموات، فباعوا المعلومات عن وجودهم أحياء، ووعدوا بالإفراج عنهم لقاءَ لا أقلّ من ثروة، وطبعاً لا إفراج عنهم، بل ضياع المال.
* روائي من سورية