في نهايات القرن التاسع عشر، كان علماء الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا الأوروبيون يدرسون المظاهر الثقافية والاجتماعية لدى كثير من الشعوب، باستثناء شعوب القارّة الأوروبية، التي يبدو أنها لم تكن "إكزوتيكية" أو غريبة بما يكفي لتلفت انتباههم، وهي النقطة التي ما زالت تُؤخذ حتى اليوم على هذين الحقلين البحثيين.
على أن الأمور تغيّرت، لحسن الحظ، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وازداد اهتمام الباحثين في الأنثروبولوجيا بتفاصيل يلاحظونها في محيطهم قبل البحث عنها، بالضرورة، لدى الآخر المختلف، ومن بين هؤلاء يحضر الأنثروبولوجي الفرنسي دافيد لوبروتون، أحد أبرز المنظّرين للمظاهر السلوكية والثقافية في أوروبا.
عن دار "صفحة سبعة"، تصدر هذه الأيام النسخة العربية من كتابات "علامات هويّة" لـ دافيد لوبروتون، بترجمة الباحث المغربي عبد السلام بنعبد العالي.
ظهر الكتاب في طبعته الأولى، بالفرنسية، عام 2002، وفيه يستكمل لوبروتون أبحاثه حول الجسد، حيث يتناول هنا الطريقةَ التي يتحوّل فيها الجسد إلى حاملة تُعرَض عليها هوية الفرد وميوله كما يختارها هو، أي بتدخُّله، وليس بالضرورة كما اختارتها له الطبيعة أو عائلته.
ومن هنا يأتي اهتمام المؤلّف بالأوشام والأقراط والحليّ التي عادت إلى الأضواء بقوّة، في الغرب على الأقل، خلال العقود الماضية، بعد أن كانت مرتبطة بتقاليد بدائية في السابق.
ويشير صاحب "تجربة الألَم" إلى أن "الجسد المُعَلَّم"، أي ذاك الذي يحمل علامات، كان منذ العصور القديمة وسيلة للتعبير عن تجربة ومسارين خاصّين، وتعبيراً قبلهما عن هويّته، قبل أن تساهم الأديان التوحيدية في انحسار هذه الظاهرة، لتعود بعد ذلك في العصر الحديث ولا سيّما في الغرب.
ويربط الباحث الفرنسي اختيار الشباب الغربيين، في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، وضع هذه العلامات على أجسادهم بعديد من الرغبات، مثل الرفض، وتأكيد الذات، والبحث عن هوية، أو تثبيت لحظة حاسمة ومهمّة عاشها المرء، وغيرها من الأسباب التي أعادت الأوشام إلى الواجهة وجعلت منها بُعداً جمالياً بعد أن كانت مرتبطةً بأجساد أجدادنا وجدّاتنا.