عشتُ هذا اليوم

09 أكتوبر 2023
من دبّابات الاحتلال التي دمّرها مقاومو غزّة، السبت الماضي (Getty)
+ الخط -

الحمد لله أنّي عشت لأرى هذا اليوم: شبابُ وكهول مقاومتنا الباسلة، يقتحمون موطني الأصلي، قرية نجد (التي يُسمّيها عدوُّنا وبعض عربنا "سديروت")، بعد أكثر من خمسة وسبعين عاماً، وللمرّة الأُولى، منذ غادرها قسراً الآباءُ والأجداد. الحمد لله أنّ القتال الشرس في زواياها وأنحائها مستمرّ، حتى لحظة كتابة هذا المقال. والحمد لله أنّ واحداً من العائلة، المهندس والمدير العام بوزارة الإسكان، الشهيد حاتم، قد قضى على تراب القرية، في اليوم الأوّل من هذه العودة، بينما كان يقاتل بسلاحه عن أرض أبيه وجده.

لم يكن هذا، من قبل، ليخطُر في الخيال. فقد رسّخ العجزُ العربي طوال عقود طويلة من أوتاد اليأس في التربة حتى غدونا لا نجرؤ حتى عبر مكر المُخيّلة. من تصوّر سيناريو بهيّاً ومُكلفاً كهذا: أن نعود لأراضينا التي سُرقت منا عنوةً، كي نقاوم لصوصها على التراب نفسه؟

مهما كان وسيكون، ستظلّ الأرض المسروقة تطلب أهلها وتشتاق إليهم

الحمدُ لله أنّي عشت، وامتدّ بي الأجل، كي أرى ما أرى، يا شعبنا الحيّ والمتجدّد... أيّها الأصيل الباقي.

قبل نحو أربعين سنة، أتذكّر، عدتُ لنجد مع أُمّي وبعض الجيران من جيلها، رحمهم الله جميعاً. لقد تاه الختايرية عن بيوتهم، وقد مسحها الغاصبون تماماً، كما فعلوا مع حوالي 450 قرية مُهجَّرة، على امتداد الوطن، ولمّا رأت أُمّي أساسات دارهم، بعد بحثٍ طويل، وكانت فقط تتكوّن من طبقة واحدة من الحجر الصخري، عرفت الموقع، ودلّت بقية الجيران على مواقع دورهم.

هنا بقايا البئر القديمة. هذا جُرن دار أبي فلان، وهذه بايكة الحاج فلان، وتلك التي عن اليمين مَضافة المختار.

كانت تشير إلى فراغات ملأتها الأعشاب الهائشة، وهُم كانوا، ما أن تشير، حتى يرتموا على التربة، من فيض الوجد، ويقبّلوا الأثر الزائل، باكين غير مصدّقين.

وفي طريق العودة، ولمزيد من الاستكشاف، ذهبت أُمّي لبيارة جدّي أبو حسان، التي تعرفها جيّداً (فلطالما اشتغلت فيها، بنتاً وصبيّة)، فقطفت حبّات برتقال خضراء، وكنّا في أوّل فصل الصيف، وأثناء ذلك، جاء مسلَّح الكيبوتس بالجِيب العسكري، وهدّد الجميع بالسجن، مُوجّهاً بندقيته نحوهم، وآمراً إيّاهم بالرحيل. مرّت ثوان رهيبة، واشتعل غضب الأم بغتةً، فخبطت على صدرها عدّة خبطات، قائلة إن البيارة لأبيها، ولا مكان لك هنا، يا غريب.

لم أرها تنفعل في حياتي كما رأيتها وقت الحادثة.

لقد عادت مكسورة الروح بالبرتقالات إلى المخيَّم في خانيونس، ولما رآها وتشمّمها مراراً، وقع الجدُّ في المرض، وعاد طفلاً، يتحنّن ويشهق بالبكاء: يحتضنها ويبكي لمدّة أسبوع كامل، حتى أخذناها من حضنه وأخفيناها.

لن أنسى ما حييت هذه القصّة. ولن أنسى ما بقي لي من العمر أنّ واحداً من أحفاد العائلة، عاد للقرية مسلَّحاً (هو الذي في أواخر الخمسينيات من العمر)، فظلّ يقاوم في حرب غوار، حتى استشهد، أمس.

الرحمة لجميع الشهداء. ومهما كان وسيكون، ستظلّ الأرض المسروقة تطلب أهلها، وتشتاق إليهم، كما يشتاقون إليها، ولن يصحّ إلّا الصحيح.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون