عز الدين أعرج: النطف الفلسطينية المهربّة.. انتصارٌ بدلالات معقدة

03 مايو 2022
إيمان زوجة الأسير الفلسطيني محمد القدرة تحمل مولودها من النطف المهربة (Getty)
+ الخط -

يقارب الباحث الفلسطيني عز الدين أعرج موضوع ظاهرة النطف المهربة من زاوية محافظة عائلات الأسرى الفلسطينيين على التواصل الأسري، ومقاومة السجن بوصفه مؤسسة للموت، محللاً سرديات زوجات الأسرى حول أطفالهن المحتملين، أو الذين لم يولدوا بعد، ما يمنح هذه الظاهرة فهماً مختلفاً ويضيء سياقات جديدة.

وينطلق في محاضرته "ولادة الذات المهرّبة: النطف المحرّرة وسياسات الإنجاب في سياق استعمار استيطانيّ" (قدّمها  الأربعاء الماضي في جامعة بيرزيت بدعوة من "برنامج الماجستير في الدراسات الإسرائيلية" بالجامعة)، من ملاحظة منهجيّة ترتبط بوضع هذه التجربة في إطار الحياة اليومية للفلسطينيين خلافاً لدراسات عدّة تعتبرها غريبة، فرغم أنها ليست اعتيادية من حيث ظروفها، بيد أنّها تقول أشياء كثيرة عن العادي واليومي.

كما يتناول موضوع المحاضرة ضمن السياق الأوسع لسياسات الإنجاب في فلسطين التي تقترح بعض أدبيات الاستعمار الاستيطاني أنها تهدف أساساً إلى عملية محو مزدوج، إذ تستهدف أجساد النساء اللواتي يمتلكن قدرة الحفاظ على الوجود الأصلاني، وبالتالي محو جزء من النسيج الاجتماعي للسكان الأصليين عبر استهداف الجيل المحتمل.

ويشير أعرج إلى تمثيلات الإنجاب في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على مرّ التاريخ، حيث نُظر إلى جسد المرأة باعتبارها منتجة للأمّة، أو تلد الأمّة، كما ترد في بعض نماذج الفن التشكيلي الفلسطيني، مقابل الصورة التي تستحوذ على ذهنية العدو بأن المرأة الفلسطينية "متخلّفة" ولا تسيطر على جسدها، وغير مسؤولة نظراً إلى تعدّد ولاداتها، حيث الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للعدو تجعل هذا الهوس الديموغرافي جوهرياً أكثر، وتترتب عليه عواقب أكبر.

مواجهة فانتازيا الاستعمار حول جسد فلسطيني عاجز عن الإنجاب

ويتطرق المحاضِر إلى مفهوم "الإنجاب الطبقي" الذي تطوّر في الدراسات النسوية، ويعني أنّ بعض الفئات يتمّ تمكينها من أجل أن تُنجب، بينما يتم ردع وقمع القدرات الإنجابية لفئات أخرى، مستشهداً بنموذج إيغال عامير الذي يواجه حكم السجن المؤبّد بعد اغتياله رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين عام 1955، إذ سُمح له بممارسة العلاقة الحميمة داخل سجنه بعد حملة حقوقية تبنّت حقه في الإنجاب كامتياز عرقي يناله بوصفه يهودياً، بينما يُحرم منها الفلسطينيون الذين يعتقلون لأسباب سياسية وأمنية وغيرها.

ومستفيداً من الأدبيات الفلسطينية حول النطف المهرّبة، يرى أعرج أنها تجربة تلعب دوراً أساسياً في تواصلِ الأسير مع الجماعة الوطنية، كما يقترح إسماعيل ناشف في كتابه "الأسرى السياسيون الفلسطينيون" (2008) الذي يدرس ظاهرة تهريب كتابات الأسرى، التي تمثّل نوعاً من الهيمنة المضادّة، بحيث تتمّ استعادة جسد الأسير من مؤسسة السجن من خلال تجاوزه لجسده في مساحته المحدودة.

وبعيداً عن مجتمع الأسرى، يلفت إلى أنه لا بدّ من أخذ سرديات النساء على محمل الجدّ، كونهنّ يلعبن دوراً تغيّبه للأسف البلاغة الوطنية الفلسطينية المنتشرة حول هذه الظاهرة، بل إنّ أسماءهن لا تظهر في بيانات مؤسسات الأسرى، ويسجَّلن بصفتهن زوجات فقط، ويتم التركيز على دور الأسير، وهنا تكمن أهمية هذه السرديات في تثبيت الاعتراف والشرعية لهذه الممارسة، وفي التفاوض على الأعراف الاجتماعية أو الوضع الاجتماعي الذي تعيشه النساء.

تغيّب البلاغة الوطنية سرديات زوجات الأسرى وتضحياتهن

ويطرح أعرج مسألة تتعلّق بإحضار الزوج الأسير إلى المنزل؛ الوصف الذي استخدمته إحدى الزوجات، في محاولة للمّ شمل العائلة عبر بناء علاقة أو صلة معه، وهي عملية شاقة وطويلة، وتبيّنها رسالة بعث بها الأسير سمير أبو فايد من "مخيم عسكر" بمدينة نابلس إلى ابنته حرّية التي وُلدت من خلال النطف المهرّبة، ويقول فيها: "لقد حرّرني الله، وليس لأحد أن يأسرني".

ومن خلال هذه السرديات، تتأكد فكرة الانتصار للأسرى وعائلاتهم، وولادة لذات مهرّبة في ظروف صعبة، لكن هناك تفاوض دائم ومستمرّ حول معنى هذا الانتصار، حيث يعزّز الإنجاب مكانتها ودورها الاجتماعي خاصّة إذا كان زوجها قد أُسر قبل أن تنجب، على حد قول المحاضِر.

ويناقش أعرج كيفية وصف زوجة الأسير للجماعة الوطنية الفلسطينية ضمن عدّة أنماط، كمجتمع أو شعب أو ناس والتي يبدو التفريق بينها لغويّاً غير ممكن، إلا أنّ لها دلالات اصطلاحية دقيقة، فعندما تفتحر النساء بهذه التجربة في سياق المقاومة والتضحية فإنهن يستخدمن مفردات الشعب والوطن. بينما يلجأن إلى استعمال مفردة "المجتمع" أو "الناس" عندما يتعرّضن إلى النميمة والتقوّل على فعلتهن في تعبير عن التفكير المحافظ والنظرة الاجتماعية المعقّدة لهذه الظاهرة، حيث يتمّ الاحتفاء بالانتصار، لكنْ لا يُنظر إلى المرأة بأنها منتصرة.

وعند سؤال النساء إن كانت حياتهن أصبحت أفضل بعد إنجابهن، يوضّح المحاضِر بأن الإجابة كانت نعم مع استدراك بأنها أصعب أيضاً، والإشارة إلى أنه كان يمكن أن تكون سهلة لكنها ليست كذلك، حيث تأخذ المعاناة أشكالاً أخرى لدى المرأة/ الأم التي يُنظر إليها بعين التدقيق والمساءلة دوماً.

ويقف عند رسالة كتبها الأسير وليد دقة إلى ابنته التي لم تولد بعد، ويسألها إن كانت تظنّه مجنوناً لأنه يتواصل مع طفل لم يولد بعد، وهل الجنون بأن نحلم بطفل لم يأت أم أنّ هذا الطفل يصبح لديه ملف في "الشاباك". وفي العام الماضي ردّت عليه ابنته، ميلاد، البالغة من العمر سنتين، بشكل رمزي في مقال نشرته مجلة "الآداب" اللبنانية تقول فيها إنه تمّ إسكاتها لعقدين، وتقترح أنها كانت موجودة طوال هذه الفترة، التي حاول فيها والداها مقاومة مؤسسة السجن التي تحرمهما الحق في الإنجاب.

مقارقات تتكرّر في حالات عديدة للأسرى، وتصبح النُّطف المهربة أو الأطفال المحتمل ولادتهم موضوعاً للتفاوض والصراع. وهنا ينبّه أعرج إلى ضرورة الالتفات إلى زوجات لم ينجبن بعد في مواجهة السجن؛ مؤسسة الموت الاجتماعي، بحيث تتم إعادة إنتاج الحياة الاجتماعية من خلال هذه السرديات، التي تتحدّى الفانتازيا الاستعمارية حول جسد فلسطيني غير قادر على الإنجاب، وأرض فلسطينية خالية.

 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون