استمع إلى الملخص
- يغوص الكتاب في تحليل الدولة العربية الحديثة، مبينًا أهمية التمييز بين مؤسسة الحكم والأشخاص، ويناقش مفهوم المواطنة وتأثير الاستعمار والتاريخ السياسي.
- يتطرق بشارة إلى التحديات الجديدة مثل الجماعتية وأهمية البيروقراطية والمواطنة في تعزيز شرعية واستقرار الدولة العربية، مؤكدًا على خصوصية نشأتها وتطورها.
بعد كتابه "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" الصادر صيف العام الماضي، والذي تابع فيه المُفكّر العربي عزمي بشارة مشروعه بتناوُل موضوعة الدولة والتنظير لها، ها هو صاحب "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" (جزآن في ثلاثة مجلّدات 2013، 2015) يستكمل قراءته التاريخية - بخصوصية وتأمُّل في الحالة العربية هذه المرّة - من خلال كتاب صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بعنوان "الدولة العربية: بَحْثٌ في المنشأ والمسار".
يُركّز الكتاب بأقسامه الخمسة وفصوله الاثني عشرة على بحث ظاهرة شغلت العرب منذ أمد بعيد، ولا تزال تثير جدلاً واسعاً في القرن الحادي والعشرين؛ وهي مسألة الدولة الوطنية في البلدان العربية، فكرةً وتطبيقاً وملابساتِ نجاحٍ أو فشل. قدَّم الباحث قبل سنةٍ كتابه "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات"، ليُتبِعَه اليوم بالكتاب الذي بين أيدينا في موضوع الدولة نظريّاً ثم في السياق العربي، آملًا أن يضيف جديداً أو يسدّ فراغاً في التفكير النظري والبحث العِلمي في الدولة والمجتمع، اللذين لا تضاهي موضوعَهما أهميةً - في رأيه - أيُّ قضية أُخرى، سواء أكان تأثيراً في حياة الأفراد والمجتمعات، أم تحديداً لمسارات التطوّر الاجتماعي - السياسي. يقع الكتاب في 536 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرساً عامّاً.
يسدّ فراغاً في التفكير النظري والبحث العِلمي في الدولة والمجتمع
كانت فكرة الكتاب الجديد جزءاً من كتاب "مسألة الدولة"، حيث شغلت فصلين منه، ثم استقرّ رأي المؤلّف على حذفهما وتخصيص كتابٍ مُنفَرد لمسألة الدولة العربية. وها هو ذا الآن بين يدي القارئ بعد جهود يصفها المؤلّف بـ"المُضنية"، نظراً إلى غزارة المعطيات والتفاصيل لنماذج ذات طابع تأريخي عن نشوء الدولة العربية، وصعوبة لمِّ شتات الموضوع نظريّاً. كما يُشير المؤلّف إلى أنّ بحثه في الدولة العربية كان من المُمكن أن يتشعّب إلى عدّة مجلّدات لولا التوقّف عند نقطة استنفاد الإضافات التي أرادها على الفصلين في الكتاب القديم أو عَدَلَ عن تقديمها.
محاور وأطروحات
تُشكّل مقارباتُ الكتاب الأول "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" ونتائجُه منهجَ كتاب "الدولة العربية: بحثٌ في المنشأ والمسار" وقاعدتَه النظرية، مع الإشارة إلى أنّ "مسألة الدولة" لم يقتصر - كما يُوحي الإفراد في عنوانه - على أطروحة واحدة، بل يتناول أطروحات ومحاور عدّة. أما المحاور فهي ثلاثة: عرْضٌ نقديّ لنظريات الدولة، وسياقات تاريخية لنشوء الدول، وتمييز بين نظريات الدولة وفلسفتها وأيديولوجيتها.
وأمّا أطروحات نظرية الدولة في الكتاب فتركّزت على ما يلي: أنّ نشوء الدولة الحديثة هو صيرورةٌ لتمايُز المجال السياسي بمعناه الواسع وإخضاعه بقيّة المجالات، حتى الديني منها، وأنّ توحيد جهاز العُنف في أيدي سلطة مركزية، ومأسسة جباية الضرائب، وترسيم الحدود بناء على معطيات تاريخية ونتائج الحروب، عوامل تاريخية ممتدّة في الزمن أدّت في النهاية إلى نشوء الدولة الحديثة في أوروبا، وأنّ الدُّول لم تعُد تمرّ بالصيرورة سالفة الذكر بعد نشوء نموذج جاهز للدولة كان فرْضُه مصدرَ صراعات وتفاوتات ثقافية وسياسية، وأنّ من أهمّ مظاهر رسوخ نموذج الدولة الحديثة التمايُز بين مؤسّسة الحُكم والأشخاص أولاً، والتمايز بين نظام الحُكم ومفهوم الدولة ثانياً.
بالإضافة إلى أنّ الدول القديمة قامت على وجود حكّام ومحكومين، فيما قامت الدولة الحديثة على المُشترك بين الحكّام والمحكومين، وأنّ الدولة العربية لم تعُد تنشأ عن استيلاء عصبيّات قبَليّة على الحُكم، بل عن تطبيق هذا النموذج، وإنْ بتشويشٍ مصدرُه استثارة بعض الأنظمة عصبيّات لترسيخ سلطتها. وأنّ مصطلح "سيادة الدولة الحديثة" لم يعد يعني سلطة الحاكم العليا، بل المشترك بين الحاكم والمحكوم، وأكثر هذا "المشترك" تطوُّراً المُواطَنة، بوصفها الوجهَ الآخر للسيادة، وأنها تعني انتماءً إلى الدولة بما يُنشئ أمةَ مواطنين وليست انتماءً إلى عصبيّة يُنشئ أمة جماعة قومية، كما أنّ من العناصر المؤلِّفة للدولة الحديثة أيضاً إلى جانب المواطَنة: السيادة الترابية والجهاز البيروقراطي المتخصّص واحتكار العنف الشرعي، وغيرها، فضلاً عن أنّ الدولة الحديثة لا يجبُ أن تُفهَم من خلال مبدأ واحد، وإلّا وقعت في فخّ الأيديولوجيات، الذي قد تقع فلسفة الدولة فيه إذا لم تحترس.
أجمَلَ بشارة نظرية الدولة في ثلاث عشرة أطروحة بكتابه السابق "مسألة الدولة"
كذلك يقف الكتاب عند أطروحات أُخرى في فهم نظرية الدولة الحديثة التي تحتكر العنف الشرعي ولا تقتصر عليه، بل تُنشئ مؤسسات لا تستخدم العنف وتُساهم في تنظيم مجالات الحياة. ولا يُقصد بـ "السلطة العليا" أنّها الأقرب إلى السيادة، بل امتلاكها القدرة على التشريع وفرْضِه؛ فسيادة القانون هي الأقرب إلى مفهوم السيادة، وأنّ الدولة الحديثة لا تُسهم بمُفردها في السيادة، بل ضمن منظومة دول تتبادل الاعتراف بالسيادة، وذات مصلحة في الحفاظ على إطار الدولة، وأنّ ثمّة توتّراً غيرَ هدّام بين مفهومَي السيادة والمواطَنة؛ فالأخيرة تُوصف بأنّها الوجه الآخر للسيادة، إذ هي حقوقٌ وواجبات تُنظّم العلاقة بين الفرد والدولة، وأنّ التبايُنَ بين مفهوم الدولة الحديثة وواقعها بنّاءٌ ومفيدٌ في فهم اتجاه التطوّر.
فرضيّات الكتاب
أمّا كتاب "الدولة العربية: بحثٌ في المنشأ والمسار" فيبحث، كما يدلّ عنوانه، في مسارات الدولة العربية، المتأثرة منها بنشأة الدولة وغير المتأثّرة؛ وهو يفترض خصوصية لنشأة الدول العربية الحديثة، ومن ضمنها تلك التي تشكّلت قبل الاستعمار أو التي لم تخضع له، ودول العالم الثالث عموماً، وهي تتمثّل بتطبيق نموذج الدولة الحديثة الجاهز في أوروبا من دون المرور بمراحله الأوروبية؛ ما يعني أنّ الدولة التي نشأت في بلدان عربية ذات نواة ترابية متصلة قبل الاستعمار تمتلك بنيةً تشبه نظيرتَها في بلدان نشأ مجال سيادتها عن تقسيم استعماري، بفارق واحد هو أنّ شرعية الدولة ذات الوجود المبكّر تكون أكثر متانةً، رغم أنّ مصادر الشرعية ليست تاريخية فحسب.
ويبين البحث أنّ شرعية الدولة العربية عموماً لم تعد موضعَ تساؤل، وأنه إذا ما نتج أمر ينمُّ ظاهرُه عن عدم شرعية الدولة فإنه في الحقيقة أزمةٌ في النظام الحاكم، وهي قد تشكِّل خطراً على الدولة، ليس لضعف شرعيتها بل لفشل النظام في إدماج الشعب في المواطَنة، التي حالت دون تطوّرها - بوصفها الحجر الأساس لـ "أمّة الدولة" - عواملُ تَعامُلِ الأنظمة مع الجماعات من منطلق ولائها، وضعفِ مؤسّسات الدولة الإدماجية غير العنفية، وضعفِ تأثير الحقوق والواجبات الذي تبقى المواطَنة من دونه شكليةً، أي مجرّدَ جنسية. وبسبب ما سلف، أدّت أزمات النظام، كالحروب والثورات، إلى أزمة في الدولة ذاتها، وما الفوضى في ليبيا والسودان، وانتشار الميليشيات في لبنان وسورية والعراق واليمن وكسرها احتكار العنف الشرعي، سوى دليلَين على أزمة الأنظمة لا أزمة شرعية الدولة.
إن المواطَنة في الدولة الحديثة تجمع الحاكم والمحكومين نحو الخارج بسيادة الدولة على إقليمها الترابي، وتجمعهم في الداخل بسَرَيان التشريعات والقوانين عليهم جميعاً. ويُضاف بُعدٌ ثالث للدولة الحديثة إلى المواطنة واحتكار العنف، وهو الجهاز البيروقراطي، مثل المؤسسات الإدماجية غير العنيفة وغيرها، الذي يقيس متانة الدولة وشرعيتها وقدرتها على التغلغل في المجتمع وتوقعات المواطنين حقوقهم منها، وتأديتهم واجباتهم تجاهها بلا إرغام، كدفع الضرائب والامتثال للقوانين... إلخ.
ومن فرضيات الكتاب انتقال الجهاز البيروقراطي في الدولة العربية من عقلانية الدولة إلى عقلانية الحفاظ على السلطة، بأدوات مثل الزبونية وغيرها، والانتقال من تشكيل القاعدة الاجتماعية للدولة إلى تشكيل القاعدة الاجتماعية للنظام، ومنها اختزال السيادة في الحاكم الفرد؛ ما يعيد التذكير بإرث سُلطاني نفته الدولة الحديثة، وهو إرث يراهن على ولاء الجماعات لا الأفراد، يُؤدّي إلى إضعاف الدولة، إذ لم يعُد ثمّة دولة متميّزة من الحكّام، ومواطَنة متميزة من الجماعة. وحين يُخضع الحاكم لسيادته مؤسّسات الدولة غير السياسية، كالقضاء والبنك المركزي ومؤسّسات الرفاه والتخطيط للمجال السياسي، تتضرّر أُسس الدولة الحديثة، ولا سيما سيادة القانون، وعقلانية البيروقراطية، وافتراض تمثيل الدولة المصلحةَ العامّة.
يفترض خصوصية لنشأة الدول العربية الحديثة، بما فيها التي تشكّلت قبل الاستعمار أو التي لم تخضع له
يشدّد الكتاب على "المشترك بين الحكّام والمحكومين" ميزةً للدولة الحديثة تُفرِّقها عن الدولة التقليدية، التي يتعرّض تعريفها إلى "وجودٍ" للحكّام والمحكومين فحسب. وقد ظهر "المشترك" بدايةً في صورة القومية (والانتماء الديني من عناصرها المكوّنة)، كجماعة متخيَّلة تكون المواطَنةُ عضويةً فيها تُشكّل مدخلاً إلى عضوية الدولة بوصفها جماعة قومية، وبالنضال تحوّلت المواطَنة رابطةَ حقوق وواجبات مستقلّة تنشأ بموجبها "أمّة الدولة" أو "أمّة المواطنين" بغَضّ النظر عن قوميتهم، التي تحتاج إلى رابط ثقافي يجعلها متماسكة، وهو الانتماء إلى الدولة بوصفها وطناً (الرابط الوطني)، أو الاستناد إلى القومية الإثنية، التي لا تُطابَق مع الرابطة الوطنية رغم تشبّث تيارات فكرية وقوى سياسية بأنّ الأمة هي القومية الإثنية العابرة لحدود الدولة، وإصرار آخرين على أثنَنة الشعب داخل الدولة. إن وجود فِرَق لا يعني بالضرورة التناقض بين قومية الأغلبية بوصفها عنصرَ تماسك وبين الأمة المواطنية التي تشمل جميع المواطنين.
لم يكن ثمّة مشترك بين الحكّام والمحكومين في الدولة ما قبل الحديثة سوى الدين غالباً، ففيها تعامل الحاكم مع رعيته تعامُلَ الخصم المهزوم، وغالباً ما اعتنق ديانة الرعيّة فكان عليها "السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر"، جاعلاً "قوّة ناعمة" بينه وبينها، مثل: المُعتقد الديني، ورجال الدين، والزعامات المحلّية، وشرعيّة السُّلالة، وكاريزما الحاكم وليس الشخص، الذي لم يَعن اسمُه الرعية، ولم تتأثّر بتغيُّره كثيراً.
لم تُشكِّل "دولة السلالة" في الماضي أساساً متيناً لانتماء الناس، أو تُمثِّل هويّة جماعية لهُم؛ إذ لم يكن ثمّة "مُشتَرك" بين الحاكمين والمحكومين سوى الدين، الذي كان في حالتَي المسيحية والإسلام مشتركاً مع شعوب أُخرى، كما كان الحكّام غالباً غرباء عن مناطق حُكمهم ومختلفين عن أهلها إثنيّاً. ولذلك، كان الناس يُسمَّون باسم الجدّ الأكبر أو مهنة الجدّ الأصغر (الفرّاء، الحدّاد، النجار، الماوردي)، أو قبيلته (التميمي، القرشي، الشمري، القيسي)، أو منطقته ومدينته (البصري، البغدادي، الفاسي، الدمشقي)، ولم يلقِّبوا أنفسهم بأسماء الأسر التي حكمتهم (الأموي، العباسي، الفاطمي، المرابطي) سوى في الدولة العثمانية بعد تأسيس الدولة الحديثة في مرحلة التنظيمات والإصلاحيّين. أمّا في الدولة العربية الحديثة فثمّة استثناء واحد هو تسمية أبناء نجد والحجاز أنفسهم باسم الحكّام، أي السعوديّين.
لقد رُسمت حدود الدولة الوطنية في زمن الاستعمار؛ لا لعدم وجود حدود قبلها، بل لتكريس حدود ثابتة للدولة بغضّ النظر عمّن يحكمها، وفرض واقع جديد تنتهي معه عمليّاً غالبية الصراعات الحدودية، فإذا ما أُثيرت من حين إلى آخر فبسبب الخلافات بين الأنظمة. وتفضّل المنظومة الدولية "ستاتيكو" الحدود القائمة بين الدول حتى حين تكون دولةٌ ما عاجزة عن بسط نفوذها على كامل حدودها، خشيةَ فوضى إثارة موضوع الترسيمات الحدودية في ما يسمّى العالَم الثالث بأسره.
أمّا الجهاز البيروقراطي للدولة الحديثة، فقد وُضع وفقاً للنموذج الأوروبي، كما وُحِّد الاقتصاد وفْقَه وأخضِع للسوق العالمية ولمصالح الدول الكبرى، وورث الحاكم الفرد للدولة المستقلّة سلطات المستعمِر العليا التي تفوق سلطات البرلمانات المنتخبة (في حال وجودها).
تحوّلت المواطَنة رابطةَ حقوق وواجبات مستقلّة نشأت بموجبها "أمّة المواطنين"
ومن فرضيات الكتاب أنّ الخلاف الأيديولوجي حول مفهوم الأمّة لم يعد يُهدّد شرعية الدولة، فنظرة التيار القومي العربي مثلاً إلى أنّ أيّاً من دول الأمّة لم تحقّق استقلالها الحقيقي لا تزال حيّة داخل الدولة الحديثة، وتوق الحركات الإسلامية إلى يوتوبيا خلافة توحّد الأمّة أغنى عن التعريف، وهي أفكار تحوّلت أيديولوجيات مُعارضة داخل الدولة الوطنية تسعى للتأثير في سياساتها التشريعية والثقافية والخارجية، فيما غابت أيّ حركات تتحدّى سيادة الدولة العربية فعلاً أو لا تعترف بها. وحتى حين تطرح أفكاراً تغييرية، ففي إطار سيادة الدولة لا بالفرض. وبناء عليه، فإن هذه الحركات لم تعد تمثّل تهديداً للدولة كالذي يمثّله فشل الإدماج الاجتماعي، سواء خدماتيّاً وتنمويّاً أو بصرف ولاء الناس منها إلى الجماعات وإنعاشها سياسيّاً، وخصوصاً في ظلّ سوء فهم هذه الجماعات معنى العلاقة بالدولة؛ ما قد يُحوِّل الصراعات السياسية إلى حروب أهليّة بدعم خارجي تُفرز ميليشيات تُنافس الدولة في احتكار العنف.
الجماعتية الجديدة
تبرز "الجماعتية الجديدة" في الكتاب بوصفها مصدر تهديدٍ حقيقيّ للدولة الحديثة، وهي ليست امتداداً للقبيلة والطائفة، بل ظاهرةٌ جديدة تشكَّلت في خِضمِّ صراع أعمى على الدولة ومواردها قد يبلغ حدَّ المسّ بالدولة ذاتها، كما في حالات اليمن والسودان وليبيا والعراق ولبنان؛ وهي دول ليست الشرعية مشكلتَها، كما في سياق صراع اليمنَين الجنوبي والشمالي، والصراع في ليبيا وإقليم كردستان العراق. فحتى سورية التي لا سيادة لدولتها الوطنية على ثلاث مناطق على الأقل، لا يزال العالَم يؤكّد وحدتها. ويتجلّى أخطر اختراق جماعتي في التغلغل في الجيش، بما يمسّ هويته الدولتية الوطنية ويُسيِّسه، أو ربما يحوّله إلى ميليشيا؛ ما يمثّل مخاطر مُحدقة بالدولة والمجتمع معاً.
ويضرب بشارة مثلاً بليبيا التي تغيب الدولة فيها بدرجة شبه كلّية منذ خلع النظام في عام 2011، ولا يجد المبعوثون الدوليون من حل لمشكلة الانقسامات العويصة التي تُغذّيها الدُّول الأجنبية سوى الهروب إلى الأمام والحديث عن انتخابات، مع أنه في حالة عدم استقرار هياكل الدولة الرئيسة، من سلطات تشريعية وجيش وحكومة وغيرها، وعدم بَسْط الدولة الوطنية سيطرتها على الأرض والسكّان، تتحوّل الانتخابات آليةً لزيادة الانقسامات، في وقت يخشى الليبيون من اتحاد فدرالي لمناطق ليبيا الثلاث الكبرى يكون طريقاً إلى التقسيم.
ربما يكون البديل من المأزق القائم ممارسةَ السيادة اتحاديّاً بما يتجاوز المناطق الثلاث إلى ولايات وأقاليم لا تفصل بينها حدود قبلية أو ثقافية أو أيّ من عوامل الانقسام، لكنّ تجنُّب الخوض في مسألة الدولة في ليبيا سوف يقود بلا شك إلى مآزق أعمق. وقد تبرز مسألة الدولة أيضاً في دول مستقرّة لا تواجه نزعات انفصالية، بسبب عدم حلِّ مسألة المواطَنة والأمّة والعلاقة بين الدولة والنظام وعقلانية البيروقراطية وقوة الدولة وضعفها، وغيرها من قضايا كتاب الدولة العربية.
مقولات الكتاب ومعالجتها
يُناقش القسم الأول من كتاب "الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار" بفصله الوحيد تميُّزَ الدولة العثمانية تشريعيّاً من دول الحضارة الإسلامية الأُخرى، وعواملَ الإصلاح الذي بدأته في مجالات العسكر والتشريع بعد هزائمها في الحروب مع أوروبا وتغلغلَ نفوذ الأخيرة اقتصاديّاً داخل الإمبراطورية العثمانية، وعلمنةَ التعليم والإدارة غير العقائدية في هذه الإصلاحات. ثم يبحث الانتقال من فكرة "الرعيّة" إلى مفهوم "المواطَنة العثمانية" في التنظيمات، وانتشار مفهوم الدولة، والصراع مع النفوذ الغربي، وكذا الانتقال من إصلاحات تشريعية قادتها نُخب حداثية إلى تأسيس ملكيّة دستورية، ثم انقلاب السلطان عبد الحميد الثاني على الدستور ومحاولته تأسيس ملكية مطلقة.
أما أسباب الانهيار، فيُرجعها هذا القسم إلى عجز اقتصاد السلطنة عن تمويل الإصلاحات وتفاقُم الاستدانة الخارجية بعد حرب القرم والإملاءات الأوروبية والتناقض بين الدولة الحديثة والبنية الإمبراطورية، والانخراط في الصراعات مع أوروبا. ويؤكّد القسم أهمية تلك المرحلة في تأسيس الدولة الحديثة ممثّلة بالجمهورية التركية، وأنّ غالبية مؤسّسات الدول الوطنية في البلاد العربية والمشرق لم تكن نتاج مرحلة الاستعمار، بل مرحلة التحديث والإصلاح العثمانيّين.
أمّا القسم الثاني، ويحتوي على فصول ثلاثة، فينتقل إلى مناقشة قضايا بنية الدولة العربية وإشكالياتها الرئيسة من منظور كتاب "الدولة العربية" وكتاب "مسألة الدولة" الذي سبقه، وهي قضايا: السيادة والمواطَنة، وبناء جهاز الدولة، والعلاقة بين النخب القديمة والحديثة، واحتكار العنف والتشريع... وغيرها، فيؤكّد انطباق مقولة "الحرب تصنع الدول" الأوروبية على السلطنة العثمانية التي بنَت دولة حديثة وحدّثت الجيش، وعدم انطباقها على الدول العربية الحديثة بعد الاستعمار، باستثناء دولة محمد علي في مصر.
تنبيه إلى الانتقال من فكرة "الرعيّة" إلى مفهوم المواطَنة خلال مرحلة التنظيمات العثمانية
كما يُضيء القسم على الفرق بين نشوء دول البلقان واليونان من تفكّك السلطنة العثمانية وبين وراثة الدولة الوطنية في المشرق العربي الوصاية الاستعمارية، وثقافتها السياسية التي تميّز بين الحاكم والدولة، ونُخَبها الجديدة التي كانت تَعُدّ وحدة الدولة نقيضاً للتعدّدية السياسية، ولا تعتبر سيادة القانون بل إنّ السيادة جملة مناصب وأفعال فوق القانون. ويُبيّن القسم كذلك ألّا فرق بين بلدان عربية عرفت دولاً قبل الاستعمار وبين أُخرى كانت نتيجةً له في بناء جهاز للدولة يستوحي من الاستعمار.
تتناول فصول القسمين الثالث (ثلاثة فصول) والرابع (فصلان) حالات نشوء الدولة الوطنية في خمس بلدان عربية هي مصر وتونس والمغرب وسورية والجزائر، وتبيِّن أن البيروقراطية المركزية والحدود الترابية ظهرتا في تونس ومصر قبل الاستعمار، وأن البنية الموروثة بعد الاستعمار في الدول الخمس لم تعكس أيَّ مواطَنة، فهي كانت مفقودة قبل الاستقلال واستمر الصراع على مضمونها بعده.
يبحث القسم الثالث ثلاثة نماذج لبناء الدولة قبل الاستعمار في البلدان العربية، أوّلاً؛ مَرْكَزَةُ محمد علي السلطة في يديه بعد قضائه على مماليك مصر، وبناؤه جيشاً نظاميّاً وبيروقراطية منظّمة من دواوين ونظارات؛ بهدف توريث السلطة في سلالته الخديوية، التي تغيّر نظام حُكمها بعده من سلطاني إلى ملكي أكثر انفتاحاً ظهرت معه ملامح هوية مصرية مشتركة بين الحكّام والمحكومين وهوية عربيّة لمصر ومبادرات لمواجهة التدخّل البريطاني. كما نشأت حالة عدم استقرار نتيجةَ التعايش بين القصر وحزب الوفد والوصاية البريطانية والتعدّدية الحزبية، وهي حالة توازن بين المؤسّسات انتهت بحُكم الضبّاط لمصر وإيكالهم عملية التحديث إلى القطاع العام لترسيخ حُكمهم، لتنتقل السيادة تدريجيّاً إلى منصب الرئيس الذي جمع بين النظام والدولة.
ثانياً؛ مَرْكَزَةُ السلطة في تونس بين يدي البايات التابعين للباب العالي الذي اعترف بحُكمهم الوراثي، والذين حدّثوا الجيش وأخضعوا المؤسّسة الدينية له؛ ما أفرز نزعة إصلاحية تونسية متأثرة بـ"التنظيمات" العثمانية والإصلاحات المصرية، ثم الاستعمار الفرنسي الذي أبقى الباي حاكماً لكنّه قلّص صلاحياته، واستكمال الحركة الوطنية بناء الدولة.
تطوّر السلطة المخزنية في المغرب من نظام البيعة والسيبة إلى الحُكم الملكي الحديث الذي فَرضت الوصاية الاستعمارية سيطرتَه على المجال الترابي وبناءه جهاز الدولة، فحافظ على المخزنية إلى جانب مؤسّسات تحتكر التشريع والعنف المنظّم والإدارة. واعتبر الكتاب أنّ النظام المغربي "ملكي ذو دستور" وليس ملكيّة دستورية، وأنّ مصطلح المخزن يشوّش فهْمَ طبيعته، وأنّ دعم الحركة الوطنية للملك هو للاستفادة من رمزيته في صراعها ضد الاستعمار، خلافاً لنهج الحركة الوطنية التونسية، رغم أنّ حركة المغرب عزّزت مكانة الملك بتصرُّفها ومكَّنته من تهميشها.
يتوقّف عند الاستعمار الاستيطاني للجزائر وإنشائه نظامَ تفرقة لمصلحة المستوطنين
أمّا القسم الرابع فيناقش نموذجَي دولتَين لم تكونا قائمتَين قبل الاستعمار. وفي هذين النموذجين، أولاً؛ التجربة الرائدة للحكومة العربية في دمشق في ظلّ التقاسُم الإنكليزي - الفرنسي للمشرق العربي، وهي المحاولة الأولى لإقامة دولة حديثة في المشرق التي استطاع التواطؤ الإنكليزي - الفرنسي القضاءَ عليها، واستطاع نظامُ الانتداب الاستفادةَ من إرثها وإرث التنظيمات العثمانية. ويبحث القسم سياسة فرنسا القائمة على مبدأ "فرِّقْ تسُدْ" وعدم الاعتراف بالقومية العربية، والتعامل مع السكان بوصفهم مجموعة طوائف، وسعيها الحثيث لإنشاء دويلات طائفية، وتفضيلها الزعامات التقليدية على القيادات الحديثة، معرِّجاً على تجربة الوصاية الاستعمارية الإنكليزية على العراق ونهجها المختلف عن الاستعمار الفرنسي. وينطلق القسم من تطوير المفوّض السامي القضاء وإجرائه انتخابات وصراع القوى الوطنية معه على الدستور ليستنتج أنّ المؤسسات السورية لم تكن إملاءً استعماريّاً، بل نتاج تفاعل مع النخب السورية المدينية التي نشأت في العهد العثماني، كما يناقش بدايات النظام النيابي والتعددية الحزبية ووراثة الدولة الوطنية أجهزة الانتداب.
وثانياً؛ تجربة الاستعمار الاستيطاني للجزائر وتدميره بنية المجتمع وإنشاؤه نظامَ تفرقة لمصلحة المستوطنين على حساب السكّان الأصليّين، وتاريخ الحركة الوطنية بأجيال عايشت احتلالاً مديداً وتطوّرت مطالبها من الرهان ضدّ الاستعمار على قيم الثورة الفرنسية والمواطَنة مع الحفاظ على الهوية المحلّية المسلمة واللغة العربية، إلى مطلب الحُكم الذاتي الاتحادي مع فرنسا، ثم مطلب الاستقلال التام، وصولاً إلى الكفاح المسلّح، مع محاولات جسر الهوّة الثقافية بين التيارات التقليدية والحداثية المتفرنسة بهوية عربية ومسلمة وحديثة معاً، وأثر ذلك في توليد ثقافات فرعية متوتّرة.
في حين يستكمل القسم الخامس بفصوله الثلاثة، ما بدأه القسم الثاني (يُنصح بقراءته بعد الثاني مباشرة)، وهو يناقش مهمّات الدولة الحديثة التي لم تعرفها الدولة التقليدية، مثل: التنمية، والخدمات، وتوقعات المواطنين منها وأثرها في التوترات مع الأنظمة. كما يبحث انتقال استراتيجيات الجماعات الأهلية من رفض السلطة إلى المشاركة فيها من دون المرور بمرحلة المواطَنة، ويناقش أيضاً تحوُّل الوظيفة الحكومية والخدمة في الجيش أداتَين لضمان الولاء للدولة، وانتقال البيروقراطية من عقلانية خدمة الصالح العمومي إلى عقلانية الحفاظ على السلطة.
كما يبحث القسم جدليّة العلاقة بين الأمة العربية والقومية، منتقداً مطابقة القوميّين بين الأمّة والقومية، ومفنّداً المحاولة النقيضة لأثننة الشعوب ضدّ القومية و"أمّة المواطنين" معاً، مشدّداً على إمكان الوصول إلى دولة وطنيّة يسودها الانسجام بين القومية وكونِها لجميع المواطنين، رغم أنها دولة لم تتحقّق حتى الآن.
ويناقش القسم مساهمة الريوع النفطية في استقلال الدولة عن المجتمع نسبيّاً، وتحدّي الخطاب الجماعتي الدولةَ، ومساهمة الصراع مع الحركات الإسلامية في تعزيز النهج السلطوي والدولاني. ويتطرق القسم، أخيراً، إلى ضعف الدولة وقوّتها، والتكامل بين الدولة القوية ومجتمعها، وتناقضها مع الجماعات القوية لأنها تحدّ من سلطتها. ويتطرّق أيضاً إلى بلدان مترامية الأطراف تعجز مؤسّساتها، لقصور في تطوّرها، عن فرض سيطرتها على مجالها الإقليمي، ثم يستنتج أنّ العنف لا يفيد في صراع الهويات، وأنّ احتكار الدولة العنف ليس هو ما يحسم الأمر، بل سياسات الإدماج الاجتماعي وتفوّق المواطَنة على الانتماءات تحت الوطنية.