عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر كتاب "الحديثية المتخيَّلة: انقطاع بين أبي حنيفة وأبي حنيفة المتخيَّل" للباحث الإيراني عدنان فلّاحي، والذي يعيد فيه قراءة تأسيس المذهب الحنفي وتغيراته عبر التاريخ.
ويشير الكتاب إلى أن معظم فقهاء الإسلام أطلقوا على أبي حنيفة لقب "الإمام الأعظم"، ونسبوا إليه بعد وفاته مدرسة فقهية من أكبر مدارس الفقه السني وأهمها حتى يومنا، موضحاً أن المطَّلع على المذهب الحنفي لا يجده يختلف هيكليًّا في كثير من النواحي عن المذاهب السنية الأخرى، ولكن هل كان كذلك حقًّا قبل "الحقبة التمامية"، أي تلك الفترة من الإسلام (القرنان الأول والثاني الهجري) التي استقرت فيها مجموعة من التعاليم في مختلف ميادين الإسلام ونالت إجماع الأمة على صحتها وعصمتها من الخطأ؟
سادت نظريةٌ في القرن الخامس تفيد بأن أبا حنيفة كان من "أهل الحديث"؛ لأن فقهه يقوم على أحاديث وأخبار الآحاد، كما انتشر شبهُ إجماع بين العلماء على أن مَن كانوا أقرب زمنيًّا إلى أبي حنيفة اعتقدوا عقيدتهم هذه نفسها في أبي حنيفة، وهي نظرية تجبرنا على ضرورة قبول أنه لم يحدث أي انقطاع معرفي بين ما نعرفه اليوم من مبادئ الفقه الحنفي وتعامله مع الأحاديث النبوية وبين آراء الفقيه المطلق أبي حنيفة في زمانه، بحسب المؤلّف
يحاول الكتاب، من خلال قراءة متأنية لوثائق تصب في مصلحة النظرية التمامية، إظهار الفرق والتمييز والانقطاع بين "أبوَي حنيفة": أبي حنيفة عند القدماء وأبي حنيفة "متخيَّل" في صورة تطورت خلال الزمن وتُقدَّم اليوم كما تخيلتها مجموعة من المؤرخين والفقهاء والمتكلمين والمحدثين، وكأنها الصورة "الوحيدة" الموافقة للواقع.
وقد اقتُبس اسم المفعول "متخيَّل" في عنوان الكتاب من عنوان كتاب السلف المتخيَّل لرائد السمهوري، الذي اقتبس الكلمةَ من أحد أعمال عزمي بشارة باسم الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيَّلة.
أما مصطلح "الحديثية"، فيشير إلى نهج محدّثين وفقهاء من القرن الثالث فصاعدًا، ميزوا أنفسهم بلقب "أهل الحديث"، على الرغم من أن استنباط الأحكام الفقهية من الحديث النبوي لم يكن خاصًّا بهم، بل استخدمته طوائف المسلمين كلها، باستثناء قلة ذكرها الشافعي في كتاب جماع العلم، فها هي كتب الجرح والتعديل زاخرة بأسماء الرواة الخوارج والقدرية والمرجئة وأهل الرأي، ومنهم من وثّقه البخاري، مع أن تصحيح الأحاديث وتطبيقها في مناهج استنباط الأحكام كانا في ميدان آخر؛ إذ أدت الاختلافات في تصحيحها إلى أن يكون عدد المقبول منها متفاوتًا بين جماعة وأخرى، إلى أن حلّ زمن المتوكل العباسي، وفيه استطاعت جماعات متأثرة بمنهج الإمام أحمد ترسيخ نفسها ممثلة وحيدة لأهل الحديث وتهميش الفرق الأخرى، إلى درجة استغراب إطلاق لقب أهل الحديث على المعتزلة، الذين يقول أحد كبار علمائها، وهو القاضي عبد الجبار: "وأما ظنُّ مَن يظن في أصحابنا أنهم ليسوا من أهل الحديث فليس كما قاله". وحاولت هذه الجماعات أيضًا فرض تطبيق منهجها في تصحيح الأحاديث واعتباره الطريقة "الوحيدة" لـ "الحديثية"، ووصم المقاربات الأخرى بالبدعة والانحراف.
يصف الكتاب الصورةَ السائدة اليوم عن "أبي حنيفة الحديثي"، والتي تُظهره متّبعًا نهج الشافعي وأحمد والبخاري وأمثالهم، بالـ "متخيَّلة" تمامًا والمشوَّهة وغير الواقعية، ويذهب إلى أن هناك انقطاعًا جوهريًّا بينها وبين الصورة الحقيقية لأبي حنيفة، الذي كانت حديثيته تختلف اختلافًا جذريًّا عن تلك الرسمية التقليدية.
ثمّة دراسات كثيرة حول أبي حنيفة، لكنّ عملَين منها يعدّان من أهم الأعمال التي استقى منها الكتاب موضوع بحثه، وهما مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث، لمحمد عبد الرشيد النعماني؛ ومكانة الإمام أبي حنيفة بين المحدثين لمحمد قاسم عبده الحارثي. ومن المؤلفات المهمة كذلك: أبو حنيفة: حياته وعصره - آراؤه وفقهه لمحمد أبو زهرة؛ والإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان لمصطفى الشكعة؛ وأبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء لوهبي سليمان غاوجي؛ ونشر الصحيفة في ذكر الصحيح من أقوال أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة لمقبل بن هادي الوادعي؛ وأبو حنيفة بين الجرح والتعديل لشاكر ذيب فياض. إضافة إلى كتاب بالإنكليزية لمحمد أكرم الندوي، وعنوانه: Abu Hanifah: His Life, Legal Method and Legacy. ومن المؤلفات التي خصصت فصولًا منها للحديث عن أبي حنيفة: ضحى الإسلام لأحمد أمين؛ ومن إسلام القرآن إلى الإسلام الحديث لجورج طرابيشي.
خُصص الفصل الأول من الكتاب لعرض موجز عن حياة أبي حنيفة وخلفيته العلمية وطرق تحصيله العلم، واستعراض أساتذته وتلاميذه، والمحن التي مرَّ بها في العصرين الأموي والعباسي. ويتضمن الفصل الثاني أدلة على الانقطاع الكبير بين حديثية أبي حنيفة التاريخي وحديثية أبي حنيفة المتخيَّل، مع ذكر انتقادات مجموعة كبيرة من المحدثين والفقهاء على امتداد القرون من الثاني إلى السادس ثم المعاصرين لأبي حنيفة وبيان صوابها من خطئها. ويركز الفصل الثالث على تفسير أدلة الفصل الثاني وتصنيفها، ونقد أهم مشهورات علم الحديث للمتأخرين في حديثية أبي حنيفة التي تصبّ في مصلحة وجوده المتخيَّل. أما الفصل الرابع فقد خُصص مع خاتمة الكتاب لعرض نتائج البحث، التي تتضمن الكشف عن الفكرة الأساسية منه وهو الانقطاع بين الفقه الحنفي و"الإمام الأعظم" أبي حنيفة، بمعنى آخر: بين أبي حنيفة وأبي حنيفة المتخيَّل. وقد تناول الملحق أهمَّ نظرية مخالِفة لنظرية كتاب الحديثية المتخيَّلة، وهي التي تضمنها كتاب محمد عبد الرشيد النعماني عن مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث.