رحل المفكّر والسياسي المخضرم عدنان أبو عودة في يوم استثنائي (2/ 2/ 2022) حرص الآلاف في العالَم على الزواج فيه، ليكمل بذلك رحلة حياتية وفكرية وسياسية استثنائية لم تكن معروفة، بعد تخوين وتشكيك متواصل له وسط "الإخوة الأعداء"، إلى أن قام "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بإصدار "يوميات عدنان أبو عودة 1970-1988" في 2017، ليكتشف مَن يقرأ هذا الكتاب شخصيّة استثنائية في كلّ المعايير. أمّا مَن عرف عدنان أبو عودة (وُلد عام 1933)، فقد استزاد من هذا الكتاب بتفاصيل دقيقة تكشف عن فترة مهمّة في المنطقة العربية لم نعتد أن نتعرّف إليها بهذا الشكل.
كانت أهمّية هذا الكتاب، لمَن يعرف ولا يعرف عدنان أبو عودة، تكمن في كونه أوّل مَن كشف عن تفاصيل "المطبخ الأمني السياسي" في الأردن خلال تلك الفترة التي شهدت خلافات وصراعات داخلية وإقليمية في المشرق. ويمكن القول إنه، مع هذا الكتاب الفريد من نوعه، بات لدينا أوّل مرجع موثّق باليوم والساعة والأحاديث والقرارات عن كيفية وآلية اتّخاذ القرار في نظام حكم دولة في قلب العاصفة (الأردن)، بينما نفتقد مثيل ذلك عن الأنظمة العربية الأخرى وعن آليات اتّخاذ قرارات كارثية في العقود الأخيرة.
أمّا لمَن يعرف أبو عودة، أو "أبو السعيد"، فقد كان هذا الكتاب تأكيداً لما عُرف عنه من اهتمام وتنظيم في العمل والتفكير والتحليل والاستشراف. ومن هؤلاء أعتبرُ نفسي محظوظاً في تعرّفي إليه ضمن سنوات عملي أستاذاً جامعياً في عمّان، بين سنوات 2011- 2018، ولذلك أكتب هنا ما أكتبه ممّا سمعته منه.
يومياته أوّل مرجع موثّق بدقة لمطبخ السياسة في الأردن
وفي الحقيقة، بدأت العلاقة واستمرّت مع أبو عودة من خلال الندوات التي كانت تُعقد حول المناسبات أو المستجدّات في المنطقة. لفتت نظري، منذ البداية، ذاكرته القويّة التي تتّسع لتفاصيل يرويها كأنه يقرأها من كتاب مفتوح. جمعتنا مرّة ندوة عن "الحكومة العربية في دمشق: 1918-1920"، قلت فيها جملةً غير مألوفة كانت البداية لمصافحة ومعرفة في الاستراحة، وأصبح يذكّرني لاحقاً بهذه الجملة كلّما التقينا. وفي المناسبات التي جمعتنا أريد هنا أن أذكر اثنتَيْن، فارقتَيْن.
كانت الأولى ندوة في بدايات المظاهرات المطالبة بالديموقراطية في سورية، ربيعَ 2011، والتي كانت مفتوحة على تطوّرات مجهولة، حيث أقامت جريدة "السبيل" الأردنية (واجهة "الإخوان المسلمين") ندوة مغلقة لحوالي عشرة من المفكّرين وأساتذة العلوم السياسية والمؤرّخين في حزيران/ يونيو 2011. ولأنها كانت مغلقة وغير مسجّلة، فقد كانت فيها تحليلات واستشرافات أتمنّى الآن أن تكون مسجّلة لكي تُنشر. كانت ورقة عدنان أبو عودة أوّل مناسبة أكتشف فيها شخصيته الاستثنائية، بعدما سمعت عنها الكثير من التنميطات السائدة ("الخيانة" و"العمالة"، إلخ).
ففي الوقت الذي كنّا فيه محتارين أو متحفّظين في توقّعاتنا حول ما يحدث في سورية، نقَلَنا أبو عودة إلى أفق أعلى، وبالتحديد إلى تحليل واستشراف دوليّ لما يحدث في سورية، رابطاً ذلك بالصراع على البلد بين احتكارات الغاز في العالم بعد الاكتشافات التي لم تكن معروفة حينها عن مخزون الغاز في شرق المتوسط، وعن أهمّية سورية كواجهة لإنتاج ونقل الغاز من الخليج إلى أوروبا. وما حدث بعد ذلك معروف: نجحت إسرائيل في أن تكون الدولة الأولى والوحيدة التي قامت بإنتاج الغاز وتصديره إلى الدول العربية المجاورة!
أمّا المناسبة الثانية، الأهمّ، فقد كانت في الشهور الأخيرة من إقامتي في عمّان، بعدما جرت تطوّرات كثيرة في الأردن والمنطقة مسّت ــ بشكل أو بأخر ــ أبو عودة. في يوم السبت، 25/ 2/ 2017، أقام "منتدى الروّاد الكبار" في عمّان ندوةً تكريمية لعدنان أبو عودة باعتباره أوّل وزير ثقافة وإعلام (1970)، في حضور بعض وزراء الثقافة والإعلام الأردنيين السابقين.
كنت أفكّر أنها مجرّد ندوة مجاملات، ولذلك لم تكن في برنامجي ذلك اليوم، إلّا أن اتصال جاري، المؤرّخ المعروف علي محافظة، للسؤال عن رغبتي في حضور الندوة كان يعني رغبته في حضور الندوة (استشعاراً منه لما فيها) وذهابي لاصطحابه بالسيّارة والحديث الممتع معه كالعادة في الذهاب والإياب. وفي هذه المرّة بالذّات، كنت ممتنّاً كثيراً لدعوة علي محافظة، لأن الندوة لم تكن تكريمية، بل كانت صادمة.
مع أني استمعت إلى الراحل أبو عودة في عدّة ندوات على مدى سنوات، إلّا أنّني لأوّل مرة فوجئتُ به متوهّجاً بتفكيره وناقداً على أعلى المستويات لمحاولات تهميشه والنيل منه ومن أُسرته إلى حدّ تسوية قبر والده بالبلدوزر في شمال عمّان (الجبيهة) بحجّة تنظيم المنطقة، دون تبليغه عن ذلك، منذراً بكشف كلّ شيء في مذكّراته التي أصبحت جاهزة للنشر بعنوان "من الإقلاع إلى الانقلاع". كنت أتوقّع أن تكون المناسبة لمدّة ساعة، وإذ بها تمتدّ حوالي ثلاث ساعات، والسبب في ذلك أن كل واحد من الحضور المحدود كان متشوّقاً لسماع المزيد ولا يُبدي كالعادة أيّة إشارة إلى الملل أو الرغبة في الانسحاب.
بدأ أبو عودة الحديث بروح مرحة، مسترجعاً ذكريات طفولته ومعاناته في أُسرة متواضعة، حيث يعتزّ بكونه ابن صانع صابون في نابلس، ممّا كان يضطرّه للعمل في العطلات المدرسية ويركّز على التفوق في دراسته، إلى أن كان من الأوائل في امتحان الدراسة الثانوية، ولكنّه "حُرم" من حقّه في الابتعاث لإكمال دراسته الجامعية، ممّا جعله يتوجّه إلى "دار المعلمين" والعمل بعد تخرجه في التعليم ابتداءً من 1954.
كان يعتزّ بكونه ابن عامل في صناعة الصابون من نابلس
في ذلك الحين كانت عمّان تغلي بالتيّارات السياسية من أقصى اليمين (حزب التحرير) إلى أقصى اليسار (الحزب الشيوعي)، وهي الدورة التي خاضها أبو عودة منتمياً في البداية إلى "حزب التحرير" لأنه "كان يتحدّث عن القضيّة" (الفلسطينية)، ولكنه تركه بعدما رفض الحزب المشاركة في المظاهرات ضدّ حلف بغداد في 1955، كما أنه ترك "الحزب الشيوعي" بعد ممارسات الشيوعيين خلال وبعد انقلاب 1958 في العراق.
الحُبّ كان حبل الإنقاذ من هذه "المعمعة" لأن أُسرة مَن كان يحبّها اشترطت الشهادة الجامعية، ولذلك ذهب إلى "جامعة دمشق" للالتحاق بقسم اللغة الإنكليزية وأدبها. بعد تخرّجه، ذهب للتعليم في الكويت التي كانت قد تطوّرت في الستينيات، ولكنّه فوجئ بأن وزارة التعليم انتدبته للتدريس في إمارة أم القيوين، حيث صُدم هناك بما شاهده (مع ذكره لتفاصيل عديدة) وأصرّ على العودة إلى الكويت.
ومع العطلة الصيفية في 1965، زار عمّان ليقضي بعض الوقت مع الأقارب والأصدقاء، ولكنّ اللقاء "العفوي" مع صديقه محمد رسول الكيلاني - الذي كان قد أصبح مديراً للمخابرات - غيّر حياته. كان الكيلاني يعرف صديقه من أيّام الشباب وتعلّقه بـ"القضية"، ولذلك ضرب على الوتر الحسّاس عندما عرض عليه أن يعمل في قسم مكافحة التجسّس الإسرائيلي بدائرة المخابرات الأردنية، وبراتب مغرٍ "يكفي أُسرتين".
بعد انضمام أبو عودة، بعقليّته التحليلية والاستشرافية، إلى دائرة المخابرات، بدأت تصل إلى الملك حسين تقارير "غير شكل"، وهو ما دفعه للذهاب إلى دائرة المخابرات والتعرّف على كاتب هذه التقارير. فتحَ هذا اللقاء الأوّل الباب لعلاقة وثيقة مع الملك حسين إلى وفاته في 1999، شغل فيها أبو عودة مناصب حسّاسة ابتداءً من وزير الثقافة والإعلام في 1970 حتى مستشار الملك حسين، وفي غضون ذلك كان حضوره في اجتماعات الحكومة يسير وسط تخوينه في الخارج الفلسطيني وتحفّظات الداخل الأردني. وفي هذا السياق، اعترف بأن والده غيّر المقهى الذي اعتاد أن يشرب فيه القهوة لأنه لم يعد يحتمل تخوين معارفه لابنه الذي أصبح وزيراً في الحكومة العسكرية في 1970.
ولكنّ المكانة التي احتلّها أبو عودة في "المطبخ الأمني السياسي" للدولة بين سنوات 1970-1999 ــ وكان خلالها وراء قرارات مهمّة اتُّخذت ــ جعلت الملك حسين يوصي، قبل وفاته، وليَّ العهد الجديد، الأمير عبد الله، أن يعتمد ــ وفق ما قاله أبو عودة ــ على ثلاثة رجال بعد أن يتولّى الحكم: عبد الرؤوف الروابدة، وعدنان أبو عودة، وعبد الكريم الكباريتي. ولكنّ حالة الانتقال صاحبها غموضٌ، في وقت كان فيه أبو عودة يدخل في حقل ألغام بحديثه عن "الحقوق المنقوصة" للفلسطينيين، وهو ما أدّى به إلى تقديمه للمحاكمة في 2007.
في القسم الأخير من حديث أبو عودة، كانت المرارة تزداد، وكان يستنكر كيف يمكن لنظام حُكم أن يهمّش مَن كان مساهماً في إرساء دعائمه، ولذلك اختار لمذكّراته عنوان "من الإقلاع إلى الانقلاع"، مؤكّداً أنها ستحتوي كلّ التفاصيل.
هذا بعض ما دوّنته في أوراقي، على عادتي، بعد العودة من كلّ لقاء مهمّ. واليوم، مع رحيل أبو عودة، أتمنّى أن يكون حديثه في ذلك اليوم مسجَّلاً ويمكن تفريغه ونشره، وأتمنى أن تكون المذكّرات الموعودة في طريقها إلى النشر.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري