اقتصر التأثير والتأثر في القرون الماضية، قبل ثورة المعلومات، على السفر والتجارة، وتبادل الخبرات، والتقارب الجغرافي، وعبر الحروب أيضًا وما زال، ما يفرض ثقافة المنتصر على ثقافة المهزوم، من خلال آلية التقليد ومحاكاة طرائقه في العيش، وهي أشبه بفرض شروط الغلبة، فهو لم ينتصر إلا لأنه الأقوى، وبما أنه الأقوى، فهو الأكثر تحضرًا، مع أن القوة قد تعني الهمجية.
أما التحضر، فمفهوم يشير إلى الوسائل الناجعة في التفوّق، لكن بأي أسلوب، وأية وسائل؟ تشير الصراعات بين الأمم إلى أن الأمة التي تنتصر أكثر تقدّمًا، ولا يهم نوع التقدّم، غالبًا العسكري، وربما كانت المغلوبة أكثر تقدمًا من الناحية الحضارية والروحية، بينما الغالبة أشد إقداماً على إحداث الدمار، فكثير من الحضارات دمرها غزاة همج.
اليوم لا يحتاج انتصار ثقافة أمة إلى جيوش ودبابات وطائرات وصواريخ لاجتياح غيرها، وفرض ثقافتها. فالفضاء الافتراضي سهّل عمليات القصف بشكل يومي على مدار الساعة، وإذا كان لنا تشبيهها بالرسائل، وهو الأقرب، فلأنها تنقل صورًا عن طرائق عيش وأساليب حياة من تنويعات الرفاهية والتسليات المثيرة، ما يشكل تصدعات وخطرًا على الشعوب الفقيرة من الفضاء الحافل بعروض الأزياء، الفرق الغنائية، وصرعات الرقص، الموسيقى الإلكترونية، الفنون الحداثية في الرسم، رموز الفن ونجوم السينما وكرة القدم، الألبسة والأطعمة، أنماط السلوك المتحررة من عقود الزواج، العلاقات العابرة، رجال الأعمال المحظوظين من المليارديرية، والتجارات الممنوعة... كذلك اللغة الأكثر تداولًا.
مناعة الأمة الداخلية، ليست بالضرورة امتيازها في الرفض
ببسيط العبارة، عالم آخر صادم لهؤلاء الذين يعيشون في مدن وأرياف البلدان المهمشة والمتروكة لدكتاتورياتها، يخوضون الحروب لحساب تجار السلاح، وتخاض الحروب على أراضيهم لمجرد أنها ساحات صالحة لتجربة الأسلحة الفتاكة الحديثة.
لا تشكل الثقافة الوافدة خطرًا حقيقيًا، إلا إذا اعتقدنا أنه يجب علينا المسارعة إلى الانتساب إليها، بموجب اعتقاد أنها تمثل عالمًا ينحو إلى تجاوز تعدد العوالم نحو عالم واحد، كنمط موحد، كأنما ثمة نموذج كوني واحد حقق انتصارًا مؤزرًا، يحق له الاستيلاء على دول كوكبنا، وإلحاقها به، من خلال التسلل الناعم، بسحر الصور وبريق الألوان، ويؤكد استحالة النشوز عن هذا النموذج، ولا تعايش بينه وبين خبرات وتقاليد الأمم الأخرى. ما يضع الثقافات المحلية في موقع الدفاع عن النفس، والاحتماء بالتراث والتاريخ القومي، أو الذوبان في خضم الثقافة الوافدة، من دون قدرة على التصدي لتكنولوجيا جبارة ومتوحشة. وإذا كان ثمة أمل للبقاء، فلن يكون إلا بتحوّل الثقافات المحلية إلى فولكلور؛ مأواه المتاحف والغبار.
تدعو الكثير من شعوب الأرض، هذه الجائحة القادمة بالأمركة، ومن قبل بالأوربة، حسب الحضارات الصاعدة، وربما الصينية علي الأبواب، وليس من باب الانتقاد دعوتها بالجائحة إلا في حال انحنينا لها كمحاولة تجنبنا التقوقع على الذات، من دون إدراك ان قدرة أي هوية لا تظهر إلا في التبصر في ما يردها من الخارج، فهو لم يأت من كوكب آخر، بل من جيران على الكوكب نفسه، كما لا ينبغي الاستهانة بهوية الأمة، المركبة من لغة ودين وثقافة وتراث وانتماء، بالتالي لا يمكن لها أن تبرهن على قدرات هويتها إلا بانفتاحها وقابليتها، إن لم يكن استعدادها للتفاعل، وتتحدد بإعادة التشكل لاستيعاب الآتي، ما يبرهن على أنها ليست منغلقة، وامتحانها على تأمين الإشباع الضروري للحاجات المادية والثقافية والجمالية والروحية.
إنّ مناعة الأمة الداخلية، ليست امتيازها في الرفض، وإنما ألا تصبح أسيرة ما يردها من الخارج، والوقوف منه موقفًا نقديًا، ولا غضاضة في الأخذ بما يفي بحاجاتها، من أين أتى، من دون عقد ولا مخاوف.
الثقافة المعولمة تظلّ هي الأخرى خاضعة للمتغيرات
إنّ الخوف المبالغ فيه على الهوية الثقافية، ما هو إلا رد فعل سلبي، والأغلب ذريعة تُظهر عجز النخب السياسية والثقافية والدينية، وخشيتها من زعزعة مواقعها في السلطة والمجتمع، وما إقبال الناس العاديين على ما هو خطر على ثقافتهم، إلا وقوف هذه النخب موقفًا سلبيًا منها، بدلاً من التصدي لها بالتثاقف معها، وإنما بالتعامل معها بشكل انتقائي، لتعزز ما يمكن أن يكون ذا فائدة لها، بما يبقي على هيمنتها.
ولا يغربنّ عن البال، أنّ هذه الثقافة المعولمة، خاضعة هي أيضًا للمتغيرات، فهي لا تستقر على حال، في الواقع تحولاتها في عهدة كبار رجال الأعمال أصحاب الإمبراطوريات السمعية البصرية، يتحكمون بها بما يملكونه من نفوذ وإمكانات وسلطة تمكنهم من خلال تكنولوجيا الإثارة والتشويق والمتعة توجيه خطابها نحو أهداف استهلاكية، بحيث تجد شعوب برمتها ومنها شعوب الغرب، مجاراة هذا التقدم بالاستهلاك والمزيد من الاستهلاك، ومعها القيم المرافقة من دون ممانعة، مع متعة الظفر بجنان نعيم الاستهلاك.
* روائي من سورية