في ثمانينيات القرن الماضي، عاش المؤرّخ التركي والصحافي مراد بردقجي (1955)، في القاهرة لعدة سنوات، وتحديداً في حيّ الزمالك. تعرّف المؤرخ المختص في التاريخ العثماني والموسيقى التركية، أثناء تلك السنوات على جاره الموسيقار والمطرب محمد عبد الوهاب (1902 - 1991). ويصف بردقجي في إحدى مقالاته بدايات علاقته بعبد الوهاب برؤيته لرجل مُسنّ يخرج كلّ صباح من بيته إلى سيارته الأنيقة، مرتدياً معطفاً وقبّعة من الصوف حتى لو ارتفعت درجة الحرارة إلى أربعين درجة مئوية، وبعد أن سأل بائعي الحيّ وحارسي العقارات عنه، عرف أن هذا الشخص هو محمد عبد الوهاب.
توطّدت علاقة بردقجي بالموسيقار المصري خلال الثمانينيات، وذكر بردقجي أنه كان يزوره كثيراً خلال تلك السنوات، وفي إحدى هذه الزيارات أجرى الصحافي التركي مع عبد الوهاب حواراً نُشر عام 1989 في العدد 109 من مجلة "حريات جوستري" التركية، وقد حصلت "العربي الجديد" على نسخة من اللقاء من المؤرخ الموسيقى التركية مراد أوزيلدريم صاحب كتاب ""وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين"، الذي استضافنا في بيته وفتح لنا أرشيفه الغني.
المثير في هذا اللقاء الذي لم يُنشر إلّا باللغة التركية، هو تصريح الموسيقار المصري لأول مرّة بأن أُمّه تركية، وهذا يعني أن علاقته بتركيا وموسيقاها لم تقتصر فقط على عزفه لألحان كبار الموسيقيين الأتراك في بداية حياته الموسيقية وتأثُّره بهم. وقد ذكر مراد أوزيلدريم لـ "العربي الجديد" أن أم عبد الوهاب من مدينة بورصة تحديداً.
دهشتُ من قولك إنكم في تركيا تأثرتم بالموسيقى العربية
اللافت للانتباه في هذا اللقاء أيضاً، هو موضوع تأثُّر الموسيقى التركية بالعربية والعكس. فبينما ينقل بردقجي لعبد الوهاب ما يردّده الموسيقيّون الأتراك حول تأثُّرهم بالموسيقى العربية، وأن بعض ملحّنيهم أخذوا ألحاناً من أغاني عبد الوهاب وترجموا كلمات تلك الأغاني إلى التركية ونسبوها لأنفسهم، يرى عبد الوهاب أنه تأثّر كثيراً هو وموسيقيون عرب آخرون بالموسيقى التركية.
جدير بالذكر أيضاً أن أحكام بردقجي على بعض الأمور في مصر كانت مجرّد انطباعات سريعة احتوت على بعض المعلومات غير الدقيقة. يظهر ذلك في حديثه عن تكريم الدولة المصرية للفنانين، إذ اكتفى بردقجي ببعض النماذج التي لا تُعطي صورة كاملة عن موقف مصر من الفن والفنانين، كمنح عبد الوهاب رتبة اللواء الفخرية، أو إطلاق اسم أم كلثوم على ميدان. ربما لا يعرف المؤرّخ المصري ما تعرّض له فنانون مصريون آخرون وعرب أقاموا في مصر، ولم يكونوا بنفس درجة قُرب "كوكب الشرق" و"موسيقار الأجيال"، من الأنظمة المصرية، حتى إن فيلا أم كلثوم الشهيرة في الزمالك لم تتحوّل إلى متحف وطني، كما ذُكر في اللقاء، بل تعرضت للهدم بعد عقد واحد من رحيل السِّت. وهو بالطبع لا يشعر مثلنا بالخجل من ممالأة عبد الوهاب لنظام السادات في تطبيعه القاتل مع الكيان الصهيوني.
ورغم ذلك، تبقى للحوار أهمّيته كوثيقة للقاء مؤرخ تركي مختصّ في تاريخ الموسيقى ببلاده، بموسيقي مصري بارز مثل محمد عبد الوهاب.
هنا ترجمة كاملة لنصّ اللقاء ومقدّمته.
يقولون إن موسيقى البحر الأبيض المتوسط أنجبت أربعة أصوات ملحمية في الخمسين سنة الأخيرة. ويرتّبون هذه الأصوات كالتالي: من فرنسا إديث بياف، ومن البرتغال أماليا رودريغز، ومن مصر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.
كنت أتصوّر حتى سنوات قليلة أن أماليا رودريغز هي الوحيدة التي ما زالت حيّة من بين هذه الأصوات. وفي أوّل أيام إقامتي بمصر، كانت القنوات الثلاث للتلفزيون المصري تُنهي بثّها كلّ ليلة بالنشيد الوطني، وكان قائد الأوركسترا رجلاً مُسنّاً، وبالكاد يقف على قدميه، لكنه يهزّ عصاه بسرعة فائقة. كان شكل هذا المايسترو غريباً بالنسبة لي. سألت عن اسمه، فقالوا: "ألا تعرف من هذا؟ إنه الأستاذ عبد الوهاب". وعرفت أيضاً أنه ما زال حيّاً.
يُعرف عبد الوهاب في الغرب بأنه "أبو الموسيقى العربية"، ورغم أن يُعرف لدينا بأنه مطرب فقط، إلا أنه يُعرف كمُلحِّن أيضاً في العالم العربي. وقد لحّن الكثير من الأغاني لأم كلثوم التي يقول عنها العرب "الستّ"، وهي صوت مصر التي انتحر البعض في جنازتها.
لم يُلحّن عبد الوهاب أغانيَ عاطفية فقط، بل أيضاً الأناشيد العسكرية، وأغلب الأناشيد الوطنية في العالم العربي مِن لحنه. يقال إن الدول العربية التي استقلّت بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تحدّد عَلَم الدولة أولاً ثم تذهب إلى عبد الوهاب لتطلب منه أن يُلحّن لها النشيد الوطني. وبالفعل قام بتلحين عدة أناشيد وطنية لبلاد عربية مختلفة. ومنحَه الرئيس السادات رتبة اللواء الفخرية. تخلّى السادات عن فكرة الحرب عام 1978، ومن أجل توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع "إسرائيل"، ذهب إلى الولايات المتحدة، وبعد عودته إلى مصر أقاموا له احتفالات في المطار، وعزفت الفرقة الموسيقية ألحان النشيد الجديد التي ألّفها عبد الوهاب من أجل الاحتفال بكامب ديفيد، وجعله السادات النشيد الوطني لمصر.
ورغم أن عبد الوهاب قد تجاوز الثمانين من عمره إلا أن شعره لم يشب تماماً، ولديه ذاكرة قوية وصوته فيه نغم. التقيت بمحمد عبد الوهاب وجهاً لوجه في بيته بحي الزمالك المُطلّ على النيل، وهو البيت الذي وضعت الحكومة المصرية يدها عليه بمجرّد رحيل الفنان. ليس من أجل مسائل الميراث أو الديون، ولكن لكي يصبح مُتحفاً وطنيّاً، وقد أصدرت الحكومة هذا القرار قبل سنوات من رحيله. احترام الفنانين عادة في مصر. مثلاً، حوّلوا بيت أم كلثوم إلى متحف، وأُطلق اسمها على معهد موسيقى وميدان يتوسطه تمثال لها. مثلما يحدث عندنا تماماً!
كان أول ما قاله لي عبد الوهاب فور جلوسه: "إننا نُعدُّ أقرباء. أمي تركية أيضاً". كانت مصر تحت حكم المماليك الشراكسة لمئات السنين، وكانوا في مصر يطلقون كلمة "تركي" على أحفاد المماليك، ولذلك قلت له: "هذا يعني أنك من أحفاد المماليك". فقال: "لا يا عزيزي، لستُ من أحفاد المماليك أو ما شابه، أقصد الأتراك الحقيقيين. أمّي جاءت مع عائلتها التركية إلى مصر وعاشت في القاهرة وتزوجت أبي بعد ذلك. وقد ماتت قبل عشر سنوات. وكان أبي فلاحاً".
هكذا بدأ حواري مع عبد الوهاب. وصارت لدي الفرصة لأعرف مدى صحّة ما يُقال في تركيا حول بعض الملحّنين الأتراك الراحلين الذين أخذوا من أغاني عبد الوهاب وترجموها إلى التركية ثم نسبوها إلى أنفسهم. وتحدّثنا كثيراً أيضاً عن الموسيقى العربية في الوقت الحاضر وفي المستقبل.
تحدث عبد الوهاب عن أثر الموسيقى التركية والغربية في الموسيقى العربية. وأظنّ أن أغرب ما تحدّثنا عنه، هو أن عبد الوهاب يقول عكس ما نقوله نحن في تركيا، قال لي: "تعلَّم العرب الموسيقى من الأتراك. نحن أخذنا منكم الكثير وغيّرناه بما يليق بموسيقانا".
سألته: "أريد أن أخبرك بأنهم يقولون عندنا إن الموسيقى التركية تأثرت بالموسيقى العربية، وأن الثيمة الأساسية في الموسيقى التركية قادمة من الألحان العربية. وبحكم علاقتك القوية بتركيا منذ سنوات، كيف ترى هذا الأمر؟".
أجاب: "أندهش كثيراً من ذلك… أنتم تقولون هناك إنكم أخذتم الموسيقى من العرب، ونحن هنا نقول عكس ذلك تماماً. ربما ستدهش، ولكنّ الموسيقي العربي الحقيقي يعرف جيداً أن الموسيقى العربية تدين بالكثير للأتراك، ولا يُخفي تأثير الموسيقى التركية على ألحانه". فسألتُه عن طبيعة هذا التأثير.
- أخذنا الروح أولاً من الموسيقى التركية، وتأثرنا أيضاً في تركيب النغمات. قديماً لم يكن عند العرب موسيقى منتظمة. إننا تربّينا ونحن نعزف مقام السماعي التركي والبَشرو. تعلّمنا من مقاماتكم، ولم نكن نعرف الموسيقى الكلاسيكية. مثلاً، تعلّمنا من الأتراك مقام الفَرَح فِزا، وشَوق فِزا، وحجاز كار كُرد. عندما كنا نذكر كلمة موسيقى قديماً، كانت الموسيقى التركية هي التي تخطر ببالنا ثم حاولنا أن نبدع موسيقى بديلة لموسيقاكم. وهكذا ولدت الموسيقى العربية.
■ أنت معروف كواحد من روّاد الموسيقى العربية. هذا يعني أن ما ذكرتَه الآن ينطبق عليك أنت أيضاً، فما رأيك؟
- بالتأكيد، لقد بدأت بتعلُّم الموسيقى التركية، ولسنوات كنت أعزف أغاني جميل بك الطنبوري وعثمان بك وسالم بك ثم بدأت بعد ذلك بتأليف الموسيقى العربية، وحتى وأنا أفعل هذا، تأثّرتُ بكم أيضاً ولا يمكنني إخفاء ذلك. في الأربعينيات قمتُ بغناء بعض الأغاني التركية بالعربية، وقد سُمعت كثيراً هذه الأسطوانات هنا. صدّقني، لقد دهشتُ كثيراً من أنكم تقولون في تركيا إنكم تأثرتم بالموسيقى العربية.
■ عبّرتُ عن دهشتي أيضاً. وقلتُ له إننا نقول في تركيا إن كثيراً من ألحان أغنيات الثلاثينيات والأربعينيات عائدة إليك، وجعلوها على الطراز التركي. فهل كنتَ شاهداً على ذلك؟
- في هذه المرحلة كنتُ أقوم بعمل أفلام غنائية، مثل "دموع الحب"، و"الوردة البيضاء"، و"يحيا الحب"، و"رصاصة في القلب"، و"يوم سعيد"، و"ممنوع الحب"، و"لست ملاكاً"، وعُرضت هذه الأفلام في تركيا وأحبّوها كثيراً، حتى إنهم ترجموا سيناريوهات هذه الأفلام إلى التركية، ولكن بقيت الألحان كما هي. هذا يعني أنني كنت أتحدّث طوال الفيلم بالتركية، وعندما تبدأ الأغنية أُغنّي بالعربية. هناك أغنية واحدة لي تُرجمت إلى التركية، وهي "عندما يأتي المساء".
■ سأسألك بصراحة أكثر: لدينا رأي شائع بأن الملحّن التركي سعد الدين كايناك قد أخذ أغلب أغانيه من أفلامك… هل سمعتَ عن ذلك؟
- لم أسمع أبداً باسم هذا الشخص. إنني تعرّفت على موسيقي تركي واحد وهو منير نور الدين سلجوق. كان فناناً كبيراً وكنت صديقاً مقرّباً منه هو وزوجته أنيسة هانم، حتى إنه دعاني مرة إلى إسطنبول، وعندما ذهبتُ إلى هناك كانوا يدبلجون بعض أفلامي إلى لتركية، وذهبت إلى الاستوديو وشاهدتُ ذلك. لو كان حدث ما تحكي عنه لألحاني لكنتُ سمعت عن هذا الأمر بالتأكيد، لأنني كنتُ ألتقي بمنير دائماً، ولكن لا أدري هل يحدث ما تقول عنه الآن أم لا.
■ وما هو وضع الموسيقى العربية الآن؟
- لقد أخذت الموسيقى العربية مكانها في النظام الموسيقي الذي يليق بها. إننا خلقنا موسيقى جديدة تماماً. أخذنا منكم الروح، ومن الغرب التقنيات.
■ مسألة تأليف اللحن من عدة أجزاء وأصوات موسيقية، والتي تُعرف بـ"تعدّد التصويت" (البوليفوني)، تُناقش في تركيا الآن، ويرى البعض أنها لا تليق بالموسيقى التركية، ويرى آخرون عكس ذلك. كيف قمتم بحلّ هذه المشكلة؟
- تأليف اللحن الموسيقي خاضع لعِلْمٍ في النهاية، ولا يمكنكم الخروج عن قواعده. الغرب لا يقبل اليوم غير السُّلَّم الموسيقي الكبير (الماجور) والصغير (المينور)، ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة يمكن دمجها في الموسيقى العربية، وقد نجحنا في ذلك.
■ وكيف نجحتم؟
- عندما نتحدّث عن "تعدّد التصويت" لا يمكننا استخدام ما يُعرف في الأبعاد الموسيقية بـ"الرُبع تون". وقد ابتعدنا عن المقامات التي تحتوي على الربع تون مثل الصبا والجهاركاه والعراق. ونحاول الآن أن نستخدم الآلات الغربية في الموسيقى العربية.
■ ألا يعني هذا أنكم تنازلتم عن مقامات أصيلة؟
- إذا كنتم تريدون استخدام "تعدُّد التصويت" فلا يوجد سبيل آخر.
■ يوجد تطور آخر لفت انتباهي في الموسيقى العربية، وهو تقليل وقت الأغنية. مثلاً، كانت أقصر أغنية لك أو لأم كلثوم في نصف ساعة، وفي العادة كانت أغانيكم تستمرّ لحوالي 45 دقيقة، واليوم صارت الأغنية في حدود ثلاث أو أربع دقائق، لماذا صارت الأغنية العربية قصيرة؟
- لأننا دخلنا في عصر السرعة، والحياة كلها صارت سريعة الحركة ومليئة بالقلق والصعوبات. هذه الحياة أثرت على الموسيقى بالتأكيد…
■ هل أثرت هذه الحياة على وقت الأغنية؟
نعم. من أجل أن يعيش الإنسان اليوم فإنه مضطر أن يركض مسرعاً. انظر إلى إيقاع المدن اليوم؛ الخطوات سريعة، والأعمال سريعة، وحتى الصعود والنزول من الباص صار سريعاً أيضاً. الإنسان لم يعد يستمتع اليوم بتناول طعامه، فقط يُشبع بطنه بساندويتش. في مثل هذه الأجواء، لن يستمع أحد إلى أغنية مدّتها 45 دقيقة. قديماً كانت الحياة بطيئة ومريحة، ولذلك كانوا يستمعون إلى هذا النوع من الأغاني، ولكن من المستحيل أن يستمعوا إليها الآن. نحن مضطرّون لتسريع الأغاني أيضاً وإلا فلن يسمعنا أحد.