عبد المقصود عبد الكريم: الترجمة مهمّة قومية بالأساس

22 اغسطس 2022
عبد المقصود عبد الكريم (تصوير: محمد الكاشف)
+ الخط -

في سبعينيات القرن الماضي، نشَر استشاري الطب النفسي والشاعر المصري عبد المقصود عبد الكريم (1956) نصوصه الأولى، ضمن حراك أدبي تصدّرته جماعتا "أصوات" التي انتمى إليها و"إضاءة"، ومثّل ردّة فعل على ركود ساد المشهد الشعري في العالم العربي، ومن بينه مصر التي عاشت حينها تغيّرات سياسية واقتصادية واجتماعية كُبرى.

أتت تلك الكتابات نتاج رفض لبهوت القصيدة على مستوى اللغة والفنّيات باستثناءات قليلة، كما أشار في مقابلات سابقة. وشكّلت تلك الرؤية أساسًا لتجربته في الترجمة التي بدأها بدافع ذاتي محضّ لنقل كتابات تعكس شغفه بالشعر، مع تركيزه على نماذج تتضمّن تأمّلات فلسفية وفكرية تستطيع الوصول إلى القارئ بغضّ النظر عن خلفياته المعرفية.

في لقائه مع "العربي الجديد" يستعيد عبد الكريم مشواره في الترجمة بقوله: "الحكاية قديمة وطويلة تطلُب منّي أن أحكي لك ثلثي عمري تقريبًا. أنا شاعر، وبالطبع كنت أقرأ كثيرًا من الشعر الأجنبي المترجم. وعدا استثناءات قليلة، لم تكن تعجبني الصياغة العربية للترجمة، بصرف النظر عن دقّتها أو عدم دقتها. كنت أشعر أحيانًا بأنّ الشاعر الأجنبي كتب نصًّا جميلًا أفسدته الصياغة في الترجمة العربية، وبدأ الأمر باللعب مع هذه الترجمات وإعادة صياغتها، مع عدم الخروج على المعنى المترجم، وخاصة حين لا يكون النص الأصلي متوفّرًا لي".

ذهب عبد الكريم في هذه اللعبة إلى مدى أبعد؛ إذ يلفت إلى أنّ أُولى خطواته في عالم الترجمة "بدأت بصياغة أشعار أجنبية ترجمها مترجمون ليسوا شعراء، وبالتالي كانت الترجمة تفتقد إلى جمال شعري. وربما تتمثّل الخطوة الثانية في ترجمة بعض المقالات والقصص القصيرة".

أجرُ المترجم في الساعة أقلّ من أجر عاملٍ غير ماهر

أمّا الخطوة التالية، فبدأت مع ترجمة أوّل كتاب، وهو كتاب هـ. د. لورانس بعنوان "فانتازيا الغريزة"، وكان ذلك عام 1989، ونُشرت طبعته الأولى في 1992 في "دار الهلال"، ولقي ترحيبًا لا بأس به، وصدرت طبعته الثانية عن "دار آفاق" في القاهرة منذ بضع سنوات، ثم توالت ترجمة الكتب بوتيرة تشبه "وتيرة الهواة" - كما يصفها عبد الكريم - حتى سنة 2005 تقريبًا، مضيفًا: "في هذه الفترة، ترجمتُ قرابة عشرة كتب، كان معظمها من دون اتفاق مع دُور نشر، لكنّها نُشرت كلّها تقريبًا بعد ذلك. وبعد 2005 وتطبيق 'اتفاقية الغات' وحتمية الحصول على حقوق الترجمة من دار النشر الأجنبية، بدأت مسيرة يمكن وصفها بالاحترافية؛ حيث تفرّغت للترجمة بشكل شبه كامل في السنوات الأخيرة، وبلغت الكتب التي ترجمتها قرابة ستّين كتابًا، بالإضافة إلى مراجعة عدد لا أعرفه من الكتب".

يرى عبد الكريم أنّ السؤال عن العقبات التي تقف في وجه المترجم العربي يبدو في غاية الصعوبة من منظور ما، ويبدو في غاية السهولة من منظور آخر، حيث تكمن صعوبته في طرحه كثيرًا، وبالتالي ضرورة التكلّم عن العقبات من منظوره. وتكمن سهولته في كثرة العقبات، حيث يمكن للمرء أن يعدّد عقبات بلا حصر.

يتابع: "لعلّ أوّل هذه العقبات تراجُع دَور المؤسّسات الحكومية بعد ما بدا أنّه نشاط ملحوظ لهذه المؤسّسات في بداية القرن، حيث انتشرت مؤسّسات ومشاريع خاصّة بالترجمة في عدد من البلدان الناطقة بالعربية: "المركز القومي للترجمة" في القاهرة، ومشروع "كلمة" في الإمارات، و"مؤسّسة قطر للثقافة" مع "بلومزبري" في قطر، وسلسلة "الجوائز" في "الهيئة المصرية العامّة للكتاب"، وسلسلة "آفاق الترجمة" عن "قصور الثقافة"، لكنّ هذا النشاط فتر كثيرًا في السنوات الأخيرة".

ولا يغفل أيضاً ضعف الميزانيات المخصّصة للترجمة، وبالتالي ضعف أجور المترجمين، فأجرُ المترجم في الساعة، بحسبة بسيطة، أقلّ من أجر عامل غير ماهر، وكذلك قلّة عدد النسخ المطبوعة من الكتاب المترجَم، وهو ما ينعكس على توزيعه وسعره، حتى إنّ بعض دور النشر تكتفي بطبع 500 نسخة، وتتّجه معظم دور النشر الخاصة للبحث عن كتب من دون حقوق ملكية فكرية، أي كتب قديمة مضى على رحيل مؤلّفها أكثر من خمسين عامًا، وربما يكون لها عذرها في ذلك، فالترجمة تحتاج إلى تمويل الدول، لأنها مهمّة قومية بالأساس، ويجب دعم هذه الدور الخاصّة التي تنشط في الترجمة، بحسب اعتقاده.

أتمنّى أن يكون هناك مترجمون يعرفون لغتهم بشكل جيّد

وينبّه أيضاً إلى انتشار "الترجمات السيّئة" و"المترجمين السيّئين" ممّا ينعكس على سمعة الكتاب المترجم، ويجعل القارئ يتردّد كثيرًا أمام شرائه، إلّا إذا كان يثق بمترجمه، بالإضافة إلى مشكلة أُخرى على مستوى البلاد الناطقة بالعربية، تتمثّل في أنّ اللغة الفصحى، وخاصة في الترجمة، صارت لها خصوصيتها في كل بلد، حتى صار فهمها في البلاد الأُخرى صعبًا في بعض الحالات، ممّا قد يؤدّي إلى ترجمة الكتاب مرّةً أُخرى، وهذا بالطبع يأتي على حساب ترجمة كتاب آخر.

يعتقد عبد الكريم أنه "لا يوجد محرّرون في دور النشر العربية، بالمعنى المعروف في دور النشر الغربية"، موضّحاً: "هناك مدقّقون أو مصحّحون، وأنا لا أحتاج إليهم غالبًا، إلّا في الإشارة إلى عبارة ملتبسة أو أمر يحتاج إلى هامش، أو تصحيح سهو إملائي! وبعض هؤلاء المدقّقين أو المصحّحين يفسدون نصّ المترجِم الذي يتقن العربية. ودورهم يقتصر على العمل مع المترجمين الذين لا يجيدون العربية، ومثل هؤلاء المترجمين ينبغي ألّا يترجموا!".

وفي حديثه عن العلاقة بين الناشر والمترجم، يلفت إلى أنّه لا يمكن الحديث عن الناشر بشكل عام؛ فهناك في البداية دُور النشر أو المؤسّسات الحكومية، وهناك دور النشر الخاصة. ويختلف التعامل عمومًا باختلاف دار النشر طبقًا لهذا التقسيم. ففي المؤسّسات الحكومية يحكم التعامل مع مسؤول عن المؤسّسة أو مسؤول عن مشروع الترجمة في المؤسّسة، وقد يكون لدى مثل هذه المؤسّسات ترشيحات تقدمها للمترجمين طبقاً لاهتماماتها، وقد يقدّم المترجم اقتراحات لمثل هذه المؤسّسات، وقد تقبل وقد ترفض. مع دور النشر الخاصة، يمكن القول إنّ التعامل يختلف بين كل دار نشر وأُخرى، وإن كانت ملاصقة لها؛ ومثلها مثل دور النشر الحكومية يمكن أن تعرض على المترجم عناوين معيّنة يقبلها أو يرفضها، ويمكن للمترجم أن يقدّم اقتراحاته.

أمّا علاقته مع الكتّاب الذين يترجم لهم، فيبّين بأنّها تأتي عبر أعمالهم، إذ لم تكن هناك أي علاقة خاصّة بينه وبين أيّ كاتب ترجم له: "الكاتب الوحيد الذي نشأت بيني وبينه علاقة مباشرة، فسدت هذه العلاقة بانتهاء الترجمة؛ لأنه كاتب مصري وحاول التدخّل في الترجمة أكثر من مرّة، وكأنه يحاول أن يجعلني أؤلّف له الكتاب بالعربية".

يكرّر عبد الكريم دائماً مقولته بأنه شاعر يترجم ويمارس الطب النفسي، مضيفاً: "المسألة تبدأ من الشعر وتنتهي به؛ علاقتي بالشعر هي التي دفعتني لدراسة الطب النفسي، وهي التي صنعت مني مترجمًا؛ كانت ثقتي بتمكّني من لغتي العربية الدافع الأول وراء جرأتي على الإقدام على الترجمة؛ وأكرّر كثيرًا أنّ الجملة الإنكليزية يمكن فهمها بطرق كثيرة مهما كانت معقّدة أو ملتبسة، لكن المعضلة الأساسية تكمن في كيفية صياغة ما يُفهم من تلك الجملة بلغة عربية واضحة وجميلة".

في سياق آخر، لا يكترث صاحب ديوان "يهبط الحلم بصاحبه" (1993) بجوائز الترجمة، والتي يقول إنّها تذكّره بالحكاية القديمة، حكاية مرزوق وتاج الجزيرة، مضيفًا أنّه تقدّم لإحدى الجوائز لكنّه لن يكرّر الأمر مرّة أُخرى.

أمّا عن مشاريع الترجمة المؤسّساتية في العالم العربي، فيرى أنه ينقصها الكثير، وأوّل ما ينقصها هو الخروج على السائد والمعروف والمضمون واللجوء إلى الأعمال التي لا تجلب المشاكل لرئيس المؤسّسة أو للمسؤول عن سلسلة الترجمة، كما تنقصها ميزانيات لشراء حقوق الملكية لكتب صدرت حديثًا بدل البحث في سراديب الماضي عن عمل جدير بالترجمة لم يجد من يترجمه.

ولا يعتقد عبد الكريم أنّ هناك مبادئ عامة يسير وفقها كمترجم، فـ "كلّ مؤلف وكلّ عمل يفرض بعض الأمور الخاصّة على المترجم، ومن المؤكّد أنّ الأمر يختلف في ترجمة نصّ أدبي عنه في ترجمة نص ذي طبيعة علمية". ويختم عبد المقصود عبد الكريم حديثه بالقول: "أتمنّى أن يكون هناك مترجمون بأعداد كافية يعرفون لغتهم معرفة جيّدة قبل أن يقدموا على ترجمة أي عمل؛ وحلمي كمترجم أن تُتاح الفرصة للترجمة لتحتلّ وضعها الطبيعي، للمساهمة في نهضة هذه الأمّة، إذا كان لها أن تنهض".


بطاقة
شاعر ومترجم مصري من مواليد عام 1956. صدر له في الشعر: "يوميات العبد على حافة بئر الأميرة" (2012)، و"نسخة زائفة" (2015). ترجم أكثر من ستّين كتاباً، من بينها: حكمة السيكوباتيين" لـ كيفن داتون، و"الموت والاحتضار" لـ إليزابيث كبلر روس، و"حين تغرب الشمس" لـ أشوك ساهني، و"آلات تشبهني" لـ إيان ماك إيوان، و"جنة عدن" لـ إرنست همنغواي. يشتغل حالياً على ترجمة كتاب "صوت الخبرة" لـ ر. د. لانغ.

المساهمون