عبد اللطيف شما يغادر الخشبة: في تأسيس المسرح الأردني

02 سبتمبر 2024
عبد اللطيف شما (1947 - 2024)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **البدايات والتأثيرات الأولى:** في عام 1965، قدمت "الجامعة الأردنية" عرضاً مسرحياً بإشراف هاني صنوبر، مما أدى إلى تطور المسرح الأردني وجذب جمهور كبير.
- **الانتقال إلى الواقعية الملتزمة:** في السبعينيات، انتقلت "أسرة المسرح الأردني" إلى الواقعية الملتزمة، وظهرت فرق مسرحية خاصة. تفرغ عبد اللطيف شما للكتابة والإخراج المسرحي، مقدماً أعمالاً ذات مضامين اجتماعية وسياسية.
- **التوثيق والتأثير الثقافي:** شما وثق تطور المسرح الأردني وكتب كتاب "المسرح في الأردن" عام 1981. ساهم في تقديم الكوميديا النظيفة وكتب للممثل ربيع شهاب، محافظاً على المسرح الكلاسيكي حتى آخر أيامه.

في عام 1965، قدّمت كلّية العلوم في "الجامعة الأردنية" بعمّان؛ حديثة التأسيس آنذاك، عرضاً مسرحياً بعنوان "أصحاب السعادة الزوجية"، شاركت فيه مجموعة من الطلبة، منهم ميمي خوري وعطاف عواد ووجدي قاسم وعبد اللطيف شما الذي رحل الخميس الماضي. وحده شما (1947 - 2024)، الطالب في السنة الأولى بقسم الكيمياء، سيبقى مشدوداً للخشبة، وينخرط في حالةٍ تركت أثرها على المسرح الأردني، وإن لم يفِها كثيرون حقّها من الدرس والاهتمام.

توزّع النشاط المسرحي في أردن الستينيات بين الكليات الثلاث في الجامعة؛ الآداب والعلوم والاقتصاد؛ حيث كان طلبتها يؤدّون عروضهم في المسرح الوحيد الكائن على أطراف العاصمة الأردنية، إذ لم يصل عمران المدينة إلى جامعتها الأُولى بعد، إذا ما استثنينا صالات السينما والمراكز الثقافية الأوروبية التي كانت تعرض أعمالاً مسرحية، ليشكّل هذا الحراك "أسرة المسرح الجامعي" الذي أشرف عليه المخرج القادم من الولايات المتحدة هاني صنوبر بدرجة الماجستير في مسرح كودمان ثياتر، كما كان أحد المساهمين في إنشاء "المسرح القومي السوري" بدمشق، قبل أن يعود إلى عمّان.

ارتبط صنوبر بأسرة المسرح الأردني التي شارك في تشكيلها هواة آخرون خارج أسوار الجامعة، مع وجود تعاونات بين الأسرتين المسرحيتين في تلك الفترة، حيث وجّههم صنوبر لإعداد نصوص لمؤلّفين غربيّين عادة، من أجل تقديمها أمام جمهور تشير العديد من الروايات إلى أنه كان يفيض عن استيعاب مسرح الجامعة الذي يحتوي نحو خمسمئة مقعد.


مرحلة انتقالية

يشير عبد اللطيف شما، في دراسة نشرها عام 1980 بعنوان "المسرح الأردني من أين وإلى أين؟"، إلى أن أسرة المسرح الأردني انتقلت في مطلع السبعينيات من الكلاسيكية إلى الواقعية الملتزمة، كما أنّ عدداً من أعضائها بدأوا تجاربهم الإخراجية الأولى بدعم من صنوبر بعد عملهم في التمثيل سنوات عدّة، مبيّناً أنّ المسرح الجامعي واصل نشاطه مع عودة دفعة من خرّيجي الفنون المسرحية من جامعات عربية وغربية، عبر إخراجهم عروضاً عدّة، وكذلك تأسيس فرقة مسرحية خاصّة مثل "عمّون" و"أضواء الفن" و"فيلالدفيا 76"، وكلّ ذلك قبل بدء تدريس المسرح في قسم الفنون الجميلة بجامعة اليرموك عام 1981.

ظلّ مشدوداً للخشبة منذ تمثيله أوّل أدواره طالباً عام 1965

في حديثه إلى "العربي الجديد"، يستذكر المخرج الأردني حاتم السيد، الذي نال شهادة جامعية من "المعهد العالي للفنون المسرحية" في القاهرة عام 1971، وتسلّم مديرية المسرح في وزارة الثقافة بعد سنوات عدّة، لقاءه الأوّل سنة 1977 مع شما، الذي كان يعمل في أحد المصانع الأردنية ضمن مجال اختصاصه في الكيمياء، لكنّه كان دائم التردّد؛ مشاركاً في عدد من الأعمال التي أنتجتها المديرية آنذاك.

ويلفت إلى حضور مميز لشما، بنشاطه الدؤوب والتزامه، وكذلك بتعدّد مواهبه واهتماماته بين التأليف والإعداد، من خلال مجموعة من المحاولات برزت في نهاية السبعينيات، وكذلك في التمثيل والأخراج، في معظم المواسم المسرحية الأولى التي نظّمتها الوزارة. سيظهر اسم شما ممثّلاً في مسرحية "المأزق" من تأليف بشير هواري وإخراج تيسير عطية ضمن الموسم المسرحي الأول عام 1977، وكذلك في "قناع السعادة" عن نص لجورج كليمنصو وإخراج شعبان حميد.

ويتوقّف السيد عند عام 1987، حين أخرج عملاً مسرحياً أعدّه شما بعنوان "ثمن الظل"، وهو مأخوذ عن نص الكاتب السويسري فريدريش دورينمات "ظلّ الحمار"، وقد عُرض لأوّل مرّة في "المركز الثقافي الملكي" وشهد إقبالاً جماهيرياً، في الفترة نفسها التي أعدّ وأخرج شما فيها مسرحية "سكابا" في سياق اجتهاده لتقديم مسرح يحمل مضامين اجتماعية وسياسية ويكون قريباً من الجمهور.

كما يبيّن السيد أنّ ضعف الأجور التي كان يتلقّاها العاملون في المسرح دفع كثيراً منهم للعمل في حقول مجاورة لتأمين معيشتهم، في إشارة إلى تجربة شما في أعمال تلفزيونية موجّهة للأطفال، لكنّه رغم قسوة الظروف ترك عمله في إدارة إحدى الشركات الصناعية أواسط الثمانينيات وتفرّغ للكتابة المسرحية والإخراج في مسرحياته "روزانا وبناتها يبحثن عن أيوب" و"المنحوس" وغيرهما، بالإضافة إلى كتابة مقالات في الصحف الأردنية والعربية حول المسرح والحركة المسرحية الأردنية ونتاجاتها، بالإضافة إلى إصداره في مرحلة لاحقة دراسات في التربية والفن نشرتها "جامعة القدس المفتوحة"، ووضع برامج تربوية وتعليمية. ويختم السيد حديثه قائلاً: "في بداياته، ضلّ شما طريقه متوجّهاً لدراسة الكيمياء والعمل فيها، لكنّ طاقته واهتماماته انصبّت نحو الآداب والمسرح الذي أخلص له حتى نهاية حياته".


تأريخ المسرح الأردني

يُعدّ شما أحد القلائل من روّاد المسرح الذين حرصوا على توثيق تطوّر الفنّ الرابع في الأردن، من خلال سلسلة مقالات ودراسات، وكُتب وضع أوّلها تحت عنوان "المسرح في الأردن" عام 1981، وقد ذهب فيه لتوثيق التعبيرات المسرحية التي سبقت ظهور الخشبة بشكلها الحديث في المدارس والقرى والمخيّمات والبوادي، وكذلك نوادي الاصطياف في مدن فلسطين (إبان الوحدة بين الأردن والضفة الغربية)، وزيارة فرق عربية عدّة للأردن.

في العام نفسه، نشر أيضاً مقالاً بعنوان "بانوراما الحركة المسرحية في الأردن- في عام الثمانين"، الذي يقرأ فيه خريطة المسرح خلال سنة 1980 باعتبارها امتداداً أو تراكُماً لسنوات سابقة، مفتتحاً المقال بملاحظة أساسية تتمثّل بأنّ الازدهار "كان دوماً جهداً مقروناً بمرحلة جديدة تأتي على المسرح مقرونة هي الأُخرى بفردٍ أو نفر من الناس يشتعلون حماسة ثمّ لا تلبث جذوة حماسهم أن تخبو"، محاولاً تفكيك أسباب ذلك بعدم وجود خطط مسبقة لإدارة المسرح الذي بدأ يتأثّر بارتباط المسرحيّين بأعمال تلفزيونية، ليُحمّل الذنب للإطار الثقافي والاجتماعي العام الذي يغذّي الحركة المسرحية.

في هذا المقال، رصد شما الفعل المسرحي في الجامعات والفرق الخاصّة ونشاطات الوزارة والأندية الرياضية والمراكز الثقافية، وعلّق على مضامين العروض وبعض تفاصيلها الفنّية وكيفية تلقّيها بحسب متابعات الصحافة لها، حتى إنّه لم يغفل تدوين العرض المسرحي الذي قُدّم عام 1980 في سجن المحطّة، حيث تأسّست فرقة "محطّة 80" التي قدّمت عدداً من المسرحيات التي كتبها وأعدّها الكاتب هاشم غرايبة الذي كان سجيناً سياسياً بسبب انتمائه للحزب الشيوعي، حيث سجّل شما عناوين العروض المقدّمة في السجن ووصفاً عامّاً لنصوصها الأصلية والممثّلين السجناء الذين شاركوا في أدائها.


شهادة جيل على جيل

يرى الممثّل والمخرج الأردني مصطفى أبو هنود الذي ينتمي إلى جيل الثمانينيات، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أنّ مراجعة تجارب جيل الستينيات ينبغي أن تكون في سياقها الموضوعي، في مرحلة شهدت عملية بناء في الاقتصاد والثقافة والبنى الاجتماعية تشييداً للدولة بشكلها الحديث؛ وهو حلمٌ راود النخبة الأردنية، خصوصاً أنّ الأردن لم يكن معزولاً عن محيطه، حيث كان معظم المشتغلين بالشأن العام قد درسوا في جامعات مصر وسورية ولبنان والعراق، بالإضافة إلى أوروبا والولايات المتّحدة.

لم تكن الثقافة عنده مجرّد مهنة، بل تعبيراً عن الذات والهوية

وينبّه أبو هنود إلى أنّ المسرح كان إحدى قنوات الثقافة في "الجامعة الأردنية" ضمن سياق عام لا يتعلّق بتفعيل الحياة الطلّابية فحسب، إنما كان هناك مجتمع متلهّف لعيش حياة مدنية مثل المجتمعات الأُخرى، يرتاد مسرح سمير الرفاعي في الجامعة شكلاً من أشكال ممارسة مدنيته، لحضور عروض لا تنحصر في البعد الترفيهي، إنّما كانت تعبّر عن رؤى التنوير والتثوير، في لحظة جمعت الطلبة من ضفّتَي النهر شراكةٌ واحدة في الهم والوعي والعادات والتقاليد، حيث درس طلبة من شرق النهر في المدارس والكلّيات في فلسطين، وقدِم الطلبة من غرب النهر للدراسة في الجامعة الأردنية كونها أسهل وأيسر بالنسبة إليهم؛ شراكة خلقت توأمة كان المسرح إحدى نوافذها، وكان عبد اللطيف شما جزءاً من هذه الحالة، نشأ فيها وتطوّر من خلالها.

ويشير أبو هنود إلى نقطة أساسية تتمثّل في عودة هاني صنوبر وعمله مُخرجاً ومدرّساً للمسرح، سواء من ناحية إعداد الممثّل ونقاش النص المسرحي والديكور والإضاءة، وشما كان أحد الذين تعلّموا العمل المسرحي في "أكاديمية بديلة"، مؤكّداً أنّه من باب العرفان للجميل، يجب القول إنّ الحركة المسرحية الأردنية خرجت من عباءة هاني صنوبر، ونقلت المسرح من مرحلة الهواة إلى الاحتراف، كما استفاد من خبراته روّاد الإذاعة ولاحقاً التلفزيون مثل عروة زريقات وصلاح أبو هنود.

ويضيف: "حالة عبد اللطيف شما تُقرأ ضمن هذا السياق حتى بدأ وفود خرّيجي المسرح من الجامعات العربية إلى الأردن، مثل نبيل نجم وحاتم السيد وأحمد القوادري وغيرهم، وبعد ذلك أصبحت الشراكة بين مجموعة الأكاديميّين، وبين "الكتيبة المؤسّسة"، كما يفضّل أبو هنود تسمية جيل الستّينيات، مشيراً إلى أنّ الجدّية والإخلاص عزّزت التشكّل المؤسّسي ورسمنة الفعل الإبداعي وتأطيره في السبعينيات، حيث تأسّست دائرة الثقافة التي ستتحوّل إلى وزارة سنة 1977، ومديرية المسرح، وكذلك رابطة المسرحيّين الأردنيّين التي ستصبح نقابة في التسعينيات.

ويؤكّد أبو هنود لـ"العربي الجديد" أنّ ما يميّز الجيل المؤسّس لم يكن مجرّد عمله ممثّلاً أو مُخرجاً أو كاتباً على حدة، بل كان يقوم بكلّ هذه الأعمال مجتمعة، ومنهم شما الذي كان أيضاً نقابياً وفاعلاً ثقافياً وجزءاً من الحالة الثقافية العامّة، فالثقافة لم تكن مجرّد مهنة، بل إحدى أدوات التعبير عن الذات والهوية، وكان المثقّفون أكثر وضوحاً وأقرب لتبنّي الأيديولوجيا السياسية لاحقاً، ويتّسق ذلك أيضاً مع تقديمه أعمالاً تربوية وتنظيره للمسرح بصفته مثّقفاً "مشتبكاً"؛ أقرب إلى المثقّف العضوي من المثقّفين الذين ينتمون إلى الجيل اللاحق، حيث كان الفنّ قضية وروحاً رسولية؛ وكان عبد للطيف شما معنيّاً برسالته ويقاتل من أجلها، فهو إلى جانب اشتغاله ومشاركته في التمثيل والإخراج والتأليف والتنظير، أسهم في صياغة المشهد النقابي المسرحي ووضع القوانين والتشريعات المنظّمة.

ولا يغفل أبو هنود ما قدّمه شما في تأسيس الكوميديا النظيفة الراقية والتي تحمل رسائل ذات بُعد تنويري في إطار المشهد الهزلي، واستخدامه الإضحاك على مبدأ الكوميديا السوداء، ضمن سياق جمالي فكري تنويري لم يكن فيه الفنّ مجرّد حالة استرزاق وحالة وظيفة، وذلك في جميع الأعمال التي كتبها للممثّل الأردني ربيع شهاب في المسرح والتلفزيون. وحتى أيامه الأخيرة، كان يكتب للإذاعة ولديه مشاريع لها أهداف تربوية وقيم أخلاقية موجّهة للمجتمع، انعكاساً لرؤيته للفنّ باعتباره وسيلةً من وسائل حماية المجتمع من الخراب والوقوع في فخ الاستهلاك وقيمه السائدة الآن.

ويخلص أبو هنود إلى أنّ عبد اللطيف شما ظلّ محافظاً على المسرح الكلاسيكي الذي ينتمي إليه، وصولاً إلى تجربته "روزانا وبناتها يبحثن عن أيوب" التي قدّمها في "مهرجان المسرح الأردني الأوّل" عام 1991، في عرض لافت فيه من الثقل المعرفي والاهتمام باللغة والاشتغال على الجوقة الغنائية ومشاركتها، وتصميم الديكور بطابع شرقي والحكاية تدور في مناخ شرقي، حيث ظلّ أميناً على ما يؤمن به في الإخراج وشكل الأداء، ولم يدخل في إطار الحداثة ضمن الشكل الذي قدّم منذ الثمانينيات.

على مدار ستّين عاماً، لم يتمكّن عبد اللطيف شما من استكمال العديد من تجاربه التي توقّفت لعوامل مختلفة، ورغم كلّ هذه الانقطاعات، حافظ على تفاؤله الذي حكم حديثه في ندوات ومقابلات صحافية بوجود كفاءات مسرحية أردنية، ونصّ مكتوب يستحقّ تحويله إلى عرض، لكن الطفرات جميعها كانت تنطفئ نتيجة خلل في إدارة المشهد يحول دون إزاحته اجتماعياً وثقافياً بما يضمن استدامة المسرح وتطوير شروط العمل به.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون