عبد الفتّاح كيليطو.. قراءة الناقد وفق ما جاء به

25 يونيو 2024
عبد الفتّاح كيليطو
+ الخط -
اظهر الملخص
- عبد الفتاح كيليطو، ناقد وباحث مغربي مكرم بجائزة الفرنكوفونية، يبرز في الأدب العربي والفرنكوفوني بأعمال تقارن بين النصوص والثقافات، معالجًا أعمال أدباء كالجاحظ والمعري.
- كتاباته تستكشف العلاقات بين الأدبين العربي والأوروبي، مثل البحث في "روبنسون كروزو" عن ابن طفيل، مشيرًا إلى تطور تلقي أعماله وإعادة تأويلها بطرق مختلفة عبر الأجيال.
- يُظهر كيليطو امتنانًا للقراءة والكتابة، مستلهمًا من تراث أدبي غني ومؤكدًا على أهمية الاستدانة والتأثير المتبادل بين الثقافات، كما في عمله "أتكلّم جميع اللغات، لكن بالعربية".

"لأيّ نوعٍ تنتمي كتاباتي؟"، هكذا عنوَنَ الناقد والباحث المغربي عبد الفتّاح كيليطو (1945)، إحدى مقالاته التي نشرتها "العربي الجديد" منذ سنوات، وها نحن اليوم نستعيد معه هذا التساؤل لنقف على بعض مُنجزه الأدبي، بمناسبة فوزه، قبل أيّام، بـ"الجائزة الكُبرى للفرنكوفونية" التي تمنحُها "الأكاديمة الفرنسية" سنويّاً. وبطبيعة الحال، لا تضعُنا استعادة هذا السؤال أمام إجابة واحدة، بل تقودُنا إلى طبقات وتقاطُعات معيّنة، من دون أن نعني بذلك أنّ كتابات كيليطو "عصيّة على التصنيف" بشكل مُطلَق، رغم أنّ بعض المختصّين والمتعمِّقين بعوالم صاحب رواية "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" (2021)، يميلون إلى القول بهذا الرأي.

في الحدود الأولى على الأقلّ، فإنّ في استدعاء كيليطو الدائم أعمالَ الجاحظ والجرجاني والمعرّي، وتطبيقه لنقوداتِهم على نصوص من آداب أوروبا، مقدارٌ وافر من نظرة الأكاديمي المُقارِنة بين النصوص والأشياء والكلمات. وهذا ما يتجلّى عنده بطريقة عِلمية تُؤطِّر مقولته، وإن باتت أعمالُه الأخيرة تنحو صوب الإيجاز والسهولة، أو ربّما صارت اللغة فيها مألوفة أكثر من ذي قَبل لدى القرّاء، مع تكرار الأمثلة و"تشقيقها"، وفق تعبير صاحبها الأثير، من دون أن تفقد "غرابتها" طبعاً. يتساءل في مقدّمة كتابه "التخلّي عن الأدب" (2023): هل يُمكن أن نبحث عن قَدَم ابن طُفيل (1110 - 1185م)، في رواية "روبنسون كروزو" للإنكليزي دانييل ديفو (1660 - 1731)؟

نقدٌ ينتظرُ قراءة تُوسّعه وتُضيف إليه من روح صاحبه

لكن ألَم تتعدّد طبقاتُ التلقّي العربي لأعمال كيليطو؟ إذ لا يُمكن القول إنّ الطريقة التي تمّ بها تلقّي "الأدب والغرابة" (1982)، أو "الكتابة والتناسخ" (1985)، هي ذاتها الطريقة التي تلقّينا بها "مسار" (2014)، أو "في جوّ من الندم الفكري" (2020). وهذا لا يعود فقط إلى "المسافة الزمنية" التي تحدَّث عنها بول ريكور، الفاصلة بين تاريخ إنشاء النصوص وبين لحظة قراءتها على يد أجيال جديدة تتأوّلها وتُعيد النظر فيها، بل تعود أيضاً إلى طبيعة كتابات كيليطو نفسها، التي شقّت طريقها بفَرادة منذ ثمانينيات القرن الماضي لتكون في المتن تماماً ممّا يُنتَج ويُقرَأ ويَلقَى تفاعُلاً بين القُرّاء. هُنا نتساءل: متى يحينُ موعد النقد؟ قد سمعنا الصوت.. فأين الصدى؟ وهذا قد ينطبق، إلى حدٍّ ما، على دراسة مواطِنِه ومُترجِم بعض أعماله عبد السلام بنعبد العالي "عبد الفتاح كيليطو أو عشق اللِّسانَيْن" (2022)، كونها جاءت أقرب إلى مفهوم "الإضافة".

تالياً، في تناول كيليطو لثنائية القراءة والكتابة، نجده ينفَذ غالباً من الحَدّ الأوّل إلى الثاني، فمِن فِعل القراءة يقترح الإجابات. وربّما مقالُه الذي استعرناه مَدخلاً لكتابة هذه السطور خيرُ مثال، ففيه تشكيلة من الكلاسيكيات العربية والفرنسية والإنكليزية، التي يستذكرُها الناقد المغربي "مُمتنّاً"، حيث يتحدّث عن رحلة الطفولة في تعلُّم الحروف الأُولى "هذا مكسبٌ مُهمّ، ننسى مع المدّة ذلك"، ومن ثمّ اليفاعة، قبل التمرُّس الأكاديمي. وهو لا يبرح حدَّ القراءة إلى الكتابة إلّا حين يبلغ عَتبة الامتنان لكتابٍ يقرأُه فيُبهره فيكتب عنه، وفق ما يقول، وهذا ما يشعر به ملايين القرّاء تجاهه بالعربية كما الفرنسية.

اعتبرَ أنّ الأدب الذي لا يستدين، أو الذي لم يعُد يفعل ذلك، محكوم عليه بالموت

هذا هو امتنانُ كيليطو-القارئ، أو كما تُفضِّل الأكاديمية والمترجِمة المصرية داليا سعودي أن ترسمَه بالفرنسيّة "Qui lit tout" (الذي يقرأ كلَّ شيء)، فماذا عن الامتنان الأكبر الذي حملَه كيليطو - الناقد لأمثال الحريري والهمذاني والمعرّي أو حتى لكتاب "ألف ليلة وليلة"، إذ قلّما يخلو كتابٌ له من إحالة أو تضمين إلى عوالم هؤلاء الأدبية؟ لكنّ الطريف في الأمر أنّه لا يفهم مُنجزَهم أو يُحلّله بعيداً عن الوعي المُقارَن، حيث المعرّي لا ينفصل فيه عن دانتي. 

ولهذين الاسمين يُخصّص فصلاً في كتابه "أتكلّم جميع اللغات، لكن بالعربية"، يكتب: "إنّنا نقرأ المعرّي وأعيننا على دانتي، نبحثُ عن دانتي في كتاب المعرّي. وهكذا فقد استفاد هذا الأخير من التقريب مع الشاعر الإيطالي، بهذا المعنى فإنّ دانتي قد خدمَ الرسالة ("رسالة الغفران")... فهو على هذا النحو مؤلّفُها، أو المُشارك في التأليف على الأقل"، ويتابع: "لا يتعلّق الأمر البتّة باستنكار لهذا الواقع الفعلي. فباسم أيّ صفاء وأية نقاوة، وأي مفهوم عن المُلكيّة نفعل ذلك؟ إنّ الدَّين الذي يُنظر إليه عادةً أنّه أمر سلبي، يغدو إيجابياً في المجال الثقافي... كلّما كثُرت ديوني ازددتُ غِنىً، والأدب الذي لا يستدين، أو الذي لم يعُد يفعل ذلك، محكوم عليه بالموت".

بالطبع، لم يأتِ كيليطو بهذه المقارنة في ذاتها، فهي معروفة وتوارد ذِكرُها شرقاً وغرباً مِراراً، بل هو نفسُه يُشيرُ إلى تنبيه مستشرقين كُثر إليها؛ لكنّه يتأوّلُها بطريقته الخاصة مُستعيناً بمفارقة الدَّين/ الغِنى وعلاقتهما بالأدب (أتساءل: أليس الدَّين فيه أو يُفضي إلى الامتنان؟)، وهذه الثنائية الجامعة بين صاحب "رسالة الغفران" وصاحب "الكوميديا الإلهية"، هي واحدة من أشهر مقارناته - لا ننسى طبعاً "اللسان المفلوق" ذا اللغتين - حيث تندرج تحتها عشرات الأمثلة والتأويلات التي تنتظر في المقابل حركة نقدية عربية إمّا تُوسِّعها وإمّا تضيف/ وتمحو (بالمفهوم الكيليطوي) منها.
 

المساهمون