في إطار فعاليات العام الثقافي "قطر – الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا 2022"، نظّمت "مكتبة قطر الوطنية" والسفارة اليمنية في الدوحة مساء أمس الأحد أمسيةً للاحتفاء بالشاعر اليمني عبد العزيز المقالح (1937)، بمناسبة مرور نصف قرن على نشر أوّل ديوان له بعنوان "لا بدّ من صنعاء".
"عمْرٌ من الابداع والخيال" عنوان الأمسية التي شملت مداخلات وووصلة موسيقية وعرضَ فيديو يحكي عن أحد روّاد الحداثة الشعرية في اليمن، وهو اليوم في الخامسة والثمانين من عمره، وتجربته في الشعر والسلك الأكاديمي والمؤسّسات الثقافية التي أدارها، كما اتّخذت الأمسية طابعاً عاطفياً عبر تبادل الحضور التحية مع المقالح وهو على سرير الشفاء، مرسلاً من صنعاء رسالة إلى الجمع نقلها السفير اليمني في الدوحة راجح بادي، ومهدياً المكتبة عدداً من إصداراته.
يظلّ مقطع "وددتُ لو كنت الطريقَ يعبرون فوقه إلى الجبل..." أثيراً عند حمد بن عبد العزيز الكواري رئيس "المكتبة الوطنية"، بحسب ما قاله، مضيفاً أن المقالح صاحب لغة جديدة متجذّرة في بيئته المحلّية ومتجاوزة لها في آن واحد، وأنه "مدافع كبير عن اللغة العربية وعاشق للكتاب".
واستذكرت الكلمات شخصيةً متمرّدة وصوفية في الوقت نفسه. فالمقالح الذي كتَب شعراً يدعم فيه المقاومين الجمهوريين وقد صمدوا في حصار صنعاء أو حصار السبعين (1967)، أمام القوّات الملكية ـــ "إلى السلاحْ، إلى السلاحْ، دوّى النفير، انتشرت على جوانب الشمس الجراحْ، يكاد يلفظ الأنفاس، يختفي تحت العباءةِ الصباحْ، فقاتلوا، 'أيلولكم' مجنونةٌ من حوله الرياحْ" ـــ هو ذاته خفيضُ الصوت المتأمّل في تضاريس مدينته الأولى في العالم، والمنشغل بالشعر بوصفه "تجربة لا نهائية وسؤالاً دائماً".
احتُفي بتجربته بمناسبة مرور نصف قرن على نشر أول ديوان له بعنوان "لا بدّ من صنعاء"
هذه التجربة هي التي يدافع عنها في بيانه الذي تصدّر أول عددٍ من مجلة "غيمان" الفصلية التي صدرت من "آخر نقطة جنوب الوطن العربي"، حيث "الشعر هو المعافى الوحيد في هذا الوطن المبتلى بديناصورات الدكتاتورية الغاربة ووحوش الهيمنة الكاسرة وعتمات الجهل الموروث". والمصادفة التي أعطت للمجلة اسم منطقة تاريخية جنوب شرق صنعاء، هي غيمان، الكلمة التي تقول المعاجم إنها صفة لمن اشتدّ عطشه، وللمكان الذي تعلوه الغيوم.
في المحطّات التي عاد إليها المقالح أمام الحاضرين في المكتبة؛ كان الطفل أمام سجن عالي الأسوار يقبع فيه والده الشيخ صالح المقالح، الذي ثار عام 1948 مع رفاقه ضدّ حُكم منغلق كان يحرّم بيع الكتب والمجلات، حُكم جاهز في أيّة لحظة لإصدار أحكام الإعدام بحدّ السيف.
والمعرفة عبر نضال القراءة السرية منحت عبد العزيز المقالح صفة أبوية بالمعنى الريادي. فهو شاعر غزير الإنتاج، ومثل ذلك في إنتاج الكتب النقدية، ومعها وجوده البارز في المؤسّسات الثقافية مثل رئاسته "المجمع العلمي اللغوي اليمني"، وكذلك "جامعة صنعاء" التي عمل فيها أستاذاً للأدب والنقد الحديث، وغير ذلك من المؤسّسات الوطنية والعربية التي أدارها أو كان عضواً فيها.
شاعر غزير الإنتاج، ومثل ذلك في إنتاج الكتب النقدية، ومعها وجوده البارز في المؤسسات الثقافية
وهذا الملمح هو المسؤولية الثقافية التي رآها الشاعر والناقد التونسي نزار شقرون في الرجل، الذي كانت له مشاريع تعاطت مع جميع الأجيال العربية، وهي خصلة نادرة بين الكتاب هذه الأيام، على حدّ تعبيره، مضيفاً: "ما إن تقترب منه حتى تتلبّس بك اليمن، ما من فنان أو شاعر جالسه إلا وكتّب نصّاً عن اليمن، وتلك النصوص شهادات حقيقية على صلتهم الوثيقة بالأرض وبشاعر أيقونة، لكأنّهم كتبوا بعينيه".
وفي وصلة موسيقية على العود، عُزفت أغنية "ظبي اليمن" التي تغنّى بها كثيرون من كلمات المقالح، وأشهر أداء لها كان بصوت المطرب الراحل أبو بكر سالم.
قُرئت عبر الاحتفالية قصائد عديدة للشاعر، منها "أنا ليس لي وطنٌ، أفاخر باسمهِ، وأقول حين أراه: فليحيَ الوطن. وطني هو الكلماتُ، والذكرى وبعضٌ من مرارات الشجن، باعوه للمستثمرين وللّصوص، وللحروبِ، ومشت على أشلائهِ، زمرُ المَناصب والمذاهب، والفتنْ"، وهي القصيدة التي كتَبها تحت نكبة اليمن في العقد الأخير، ولم ير فيها جلّ مَن قرأوها بعنوانها ("أعلنت اليأس") سوى إعلان غاضب من الشاعر الذي رفض مغادرة مدينته صنعاء منذ عقود، وكان شاهداً في شيخوخته على دمار بلده.