جرت العادة أن نسترجع في "العربي الجديد" حصيلة الدراسات المتعلّقة بالضاد طيلة السنة المنقضية، لكن في ظروف الحرب الغاشمة على غزّة وأهلها، لا يسعنا إلّا أن نستعيد ما طرأ على الضاد ذاتها وهي تُتابع هذه الحرب وترسم يومياتها الكالحة، فقد كان الانتقام الإسرائيلي من الفظاعة بحيث دفع الملاحظين، من صحافيّين ومُعلّقين وساسة، إلى التنقيب في معاجم الدمار لإيجاد ما يناسب هذا الإجرام من مفردات وصورٍ، فانبثقت من بطونها حقولٌ كاملة تدور مفرداتُها حول التقتيل والتهجير والتنكيل، وكأنها حُشِرت من العصور الوسطى، عصور الظلام والهمجية، لكنّها لا تكفي للإحالة على أدنى مستوى من التوحّش الذي بلغته الآلة الحربية، فتكًا بالأبرياء وإرداءً للضحايا من المدنيّين العزّل. كان هذا القاموس يحضر بشكل متقطّع كلّما وقعت جريمة استيطانية أو صِدام مع الاحتلال، إلا أنّه عاد خلال هذه الحرب بكثافة مرعبة كأنما ليوازي رعبَ الإجرام المُشاهَد ويحكيه.
تداخلت ثلاثة سجلّات دائرة حول البشر والحجر وسائر بُنى الفِكَر، ففي السجلّ الأوّل تحضر كلمات القتل والتقتيل والتعذيب والموت والتنكيل والإعدام وسائر ما يتعلّق بإهلاك الذات الفلسطينية، أطفالًا ونساءً وشيوخًا، ساوت بينهم آلة الحرب فلم ينقطع عدّاد القتل طيلة أشهر ثلاثة، ففي كلّ يومٍ يرتقي عشرات الشهداء، حتى كادت مفردات مثل موت وقَتل وإعدام تفقد وقعها وتنزلق في الرتابة. سبق للألمانيّة حنّا آرندت أن صاغت مفهوم "تتفيه الشرّ"، وهو ما يقابل هنا تتفيه القتل ومفرداته عبر جعله خبرًا يوميًّا عن مُجرمي الحرب. أن يُقتل العشرات كلّ يوم ثم يُخبر عن عددهم غدًا مع الأسف روتينًا يوميًّا، تمارسه الصحافة ووزارات الخارجية في بياناتها، ولا مناص للكُتّاب من ذلك حتى لا تموت الحقيقة بدورها وتضيع وسط التعتيم الإعلامي العالمي.
وللتاريخ، فقد برع كُتّاب صحيفة "العربي الجديد"، مع زملائهم في "التلفزيون العربي" وقناة "الجزيرة" وغيرها من الوسائط المماثلة، في نقل أخبار التدمير بأمانة وتغطيتها بدقّة، إذ خاضوا حربَ الكلمة والصورة مؤدّين واجبَ الإعلام بشجاعة، حتى راح منهم أكثر من خمسين صحافيًّا، لم يكن لهم من همّ سوى تطويع الضاد حتى تلتصق بالواقع، الواقع المُدَنَّس وهُم الذين سجّلوا اغتصابَه بأسلحة غربيّة. فلا يأتِ بعد ذلك "مفكّروهم" لينتقدوا التصاق الضاد بالمقدّس وانقطاعها عن الواقع الأرضيّ. نزلت الضاد إلى الميدان وأبانت عمّا خَلفه الانتقام الأهوج من ترويع. ورفع كُتابُنا الضادَ، عبر التحرير الصحافي، مرة أُخرى إلى مصاف الحقيقة وأخرجوها من اهتراء البيانات الخشبيّة.
استنفرت الضاد طاقاتها التعبيرية لتعبّر عن العدوان
وعسى أن تتضافر جهودُهم وتتّصل حتى لا تغدو كلماتُ الموت رتيبة، كأنّها تحيل على مدلول اعتيادي أو ممارسة مقبولة، فالتقتيل ومفرداته جرائم يوميّة لا بدّ من توثيقها على أمل أن يحاسَب مرتكبوها يومًا، وألاّ تضيع معانيها في غمرة المنشورات والأخبار المتكرّرة في الفضاءات الرقمية. ولا لموت دلالات الكَلِم ولضياعها في غياهب الرتابة.
ومن جهة ثانية، دارت المفردات الأُخرى حول التدمير، تدمير غزّة، مبانيها ومجانيها، أرضِها وعمرانِها بلا استثناء. فالقليل الذي شُيّد على هذا القِطاع الصامد سُوّيَ بالأرض وتحوّل إلى أنقاض، تحتها جثامين الشهداء، وكذلك استنفرت الضاد كلّ طاقاتها التعبيريّة لتحكيَ ما لحقَ الحجر من تفتيتٍ، كأنّما يصبّون جام غضبهم على كلّ ذرّة من ترابها المقدّس تنكيلًا بتعلّق أهلها بها، لكن ما قدرت على تصوير هول الخراب الذي لحق بكلّ شبرٍ من هذه الأرض المعطاء.
ودارت أسماءُ الحقل الثالث على الطمس وإخفاء كلّ مرافق الحياة الثقافيّة كالمدارس والجامعات والجمعيّات، إلى جانب المساجد والكنائس، انطفأ فيها بريقُ الفكر وما به يتغذّى العقل والوجدان تحت وطأة إجرام لا يراعي للفكر حرمتَه. ودع عنك ما يتبجّح به القوم من حريّة ذهنيّة وحسّ نقديّ وانعتاق، فكلّها شعارات تغيب في الغرب عندما تُضرَب في غَزَّتنا اليتيمة، فلا ينطق دعاتُها ببنت شفة. وحدها الضّاد، على ألسن هؤلاء الصحافيّين الشجعان، شهدت ولا تزال على ما يُفعل بالفكر ومراكزه أمام تواطؤ الجميع بما في ذلك أكبر الفلاسفة، مشرقًا ومغربًا.
إذ كنّا، في الديار الغربيّة نسمع ألفاظًا مهولة عندما يُخدش إنسانٌ مجرّد خدشة. لكن عندما تأتي إلى هذه الديار أنباء الفتك بالأرواح، تَصمت فجأة وتغيب عنها توصيفات الدمار وانتهاك حقوق الإنسان، تختفي وراءَ عبارات فضفاضة مضلّلة مثل "مبدأ الدّفاع عن النفس"، كأنها تقيها من استخدام السجلّ الحقيقيّ، الدال على جرائم الحرب الإسرائيلية. يجعل تَخابثُ اللفظ الآلةَ الإعلاميّة الغربيّة تتجنّب كلّ دلالات الإجرام بمفرداته الغاشمة فتخفيه وراء هذا الحجاب الكاذب الذي لن يخفي ما حصل وإن استعاضوا عنه بلغة خشبيّة تمنع المواطن الأوروبي من رؤية الدمار الذي لا يوصف بأيّ لغة، مهما تعالت في مراتب الفصاحة والتنميق. وإلا فأيّ كلمة وأيّ نصٍّ بقادر على تصوير رصاصات تخرق الخدَّجَ والرضَّع، وأي دلالة أشدَّ من الموت ذاته في الإحالة على الموت. فكلماته ليست كالكلمات، هي فظائع وجرائم فعليّة تفوح منها روائح الجُثث والدماء الآسنة.
يتجنّب الإعلام الغربيّ دلالات الإجرام الصهيوني
وما أُلّف طيلة هذه السنة المنصرمة من كُتبٍ ومجلّات وما أُقيم من ندوات، لا يعدو كونه مُسودات ناقصة، وحده النصّ الشاهد على حرب غزّة يستحقّ التسجيل والتبجيل، فهو الذي دوَّن، تحت القصف، صوت الحقيقة ومؤتَمَرَها. ولولا بقيّةٌ من "حياء شرقي" لهاجمتُ كلّ احتفاء سوى الاحتفاء بالفصحى التي سمعنا الأطفال بها يتكلّمون وهُم تحت الركام، وعبرها يشهد المراسلون والمحلّلون تحت الرصاص القاتل.
ومع ذلك، فليس من طريق آخر للضادّ في خواتيم هذه السنة المخزية لضمائر البشريّة، إن بقيَ لها من ضمير، أن تواصل مسيرها في فضح التهافت القيمي الذي آلت إليه القلوب المريضة والعقول العقيمة، وليس لها من سبيل سوى نفخ الروح في كلّ كلمة تساعد في نقل هذه التضحيات للعالم، حتى يراها حروفًا حمراءَ ويسمعها عبارات صارخة تملأ الوعي وتحلّق من بطون القواميس على أمواج الأثير عساها تصل في النهاية إلى قاع الضمير، إن بقيت فيه حشاشة حياة، فتصير هذه الكلمات قراراتٍ دوليّة وإجراءات تتّخذها الدول العاقلة لإيقاف تتفيه دلالات الدمار.
بريق أمل يلوح في معجم آخر يقاوم، لحمته كلمات الإثخان في العدوّ والصمود أمام الضربات والتكافل مع أفراد المجتمع رغم هول المصاب، تنبعث مجازات الصبر والاستبشار من تحت الأنقاض، كأنّما تبشر بغزّة جديدة ستخضرّ يومًا وإن أقحلت قلوب المطبّعين.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس