طه باقر: الزمن البعيد لرعاية ألواح الطين

28 فبراير 2021
تمثال لـ طه باقر في "المتحف الوطني العراقي" في بغداد، من إنجاز خليل خميس
+ الخط -

منذ الغزو الأميركي في 2003، لا يأتي الحديث عن الآثار العراقية إلّا في شكل مأساة. تارةً مع مشاهد نهب "المتحف العراقي" في بغداد، وتارات ضمن أخبار تهريب القطع الأثرية، ناهيك عن التخريب الذي طال الكثير من المواقع، إن لم يكن بيَد معتدٍ جاهل، فبالإهمال.

يستدعي هذا الواقع المأساوي أن نتذكّر صفحةً مشرقة للعراق في تعامله مع آثاره. صفحة نعود إليها اليوم، مع حلول ذكرى جديدة لرحيل أحد ألمع علماء الآثار العراقيين؛ طه باقر (1912 - 1984)، والذي تعيدنا مسيرته إلى زمنٍ آخر يبدو بعيداً عنا اليوم.

ربّما اشتهر اسم طه باقر بين النخب العربية بكونه صائغ "ملحمة غلغامش" بلسانٍ عربيّ مبين. فقد تلقّف الشعراء - خصوصاً - هذا النصّ منذ أن صدر في بداية الستينيات، فأدرجوه ضمن صوَرهم واستعارتهم، وبات جزءاً من الثقافة العامة عربياً. من دون أن ننسى البُعد الأصلي لمثل هذه الترجمة، أي تغذية المعرفة التاريخية وفهم مخيال الإنسان القديم وحكمته، ومن وراء ذلك ما هو أعمق في النفوس المعاصرة، حين يجري ربطها بذاكرتها البعيدة.

لمغامرة باقر مع "غلغامش" وجهٌ آخر، يتمثّل في كونه قد تصدّى له من اللغة الأصل، فقد أتى به من الأكّادية إلى العربية مباشرةً ومن دون وسيط أوروبي، كما جرت العادة مع معظم النصوص القديمة الأخرى. هنا نتبيّن أفقاً آخر تحرّك ضمنه عالم الآثار العراقي؛ إذ لم يكن ينظر إلى اللغات القديمة بوصفها مفاتيح فحسب، تمكّننا من دخول ما بقي عصيّاً على الفهم، بل بوصفها شكلاً آخر من أشكال رعاية الآثار. فالحديث معها وبمفرداتها يعيد الروح فيها وفي قدرتها الرمزية على بعث المعنى إلى المعاصرين.

أتقن باقر السومرية والآرامية والأكادية، ومعها العربية طبعاً، ولغاتِ مَن وضعوا معاول التنقيب في آثار بلاده؛ الإنكليزية والفرنسية والألمانية، فبدونها سيبقى الكثير ممّا جرى اكتشافه مستغلقاً على "عالِم الآثار الأهلي". ومن الوجيه هنا الإشارة إلى أن باقر كان يعترف بفضل علماء الآثار الأوربيين لأنهم انتبهوا أوّلاً إلى تاريخ العراق القديم، وكذلك في مصر وبلاد الشام وشمال أفريقيا، على أن يُكمل أبناء كلّ بلد تلك الجهود ــ ولا يَخفى ما فيها من استغلال ونهب ــ ويخلّصوا آثار بلادهم من عبَث الأيادي الغريبة فيها. لكنّه كان مقتنعاً بأنّ هذا الأمر لن يتمّ إلا بتطوير الوعي التاريخي وتوفير الإرادة والأدوات.

كان يعتبر أن اللغات القديمة أكثر من مجرّد مفاتيح تمكّن من دخول ما بقي عصياً على الفهم

بعد ثورة تموز (1958) في العراق، وجد باقر ما كان يحتاجه؛ دولةً مؤمنة بالآثار كقضية وطنية. يقال إن حماسته جعلت عبد الكريم قاسم يعرض عليه مواقع رسمية متقدّمة، غير أنّه فضّل مواقع يكون فيها غير بعيد عن عالم البحث والتنقيب. لم يدم به الأمر سوى سنوات معدودة، حيث وضعَ سقوط حكومة قاسم في 1963 عالِمَ الآثار العراقي في قائمة منبوذي عهد عبد السلام عارف، وبدرجة أقل من التضييق في سنوات حكم البعثيين. رغم ذلك، ظلّ باقرّ مهمّشاً، ما دفعه إلى الرحيل إلى ليبيا، حيث عاش بين 1965 و1970، ثم عاد إلى بلاده مدرّساً جامعياً لكن من دون تلك الطاقة والحيوية اللتين عُرف بهما.

ما حدث مع باقر كان يُشبه بتْرَ مسيرة علمية في لحظة نضوج ثمارها. من حسن الحظّ أنّه حقّق الكثير في الفسحة الزمنية القصيرة التي أتيحت له، وأبرز ما فعله فك رموز الألواح الرياضية البابلية، ولوح قانون إشنونا، واكتشاف مدينة شادوبوم السومرية، إضافة إلى مشروعه الأضخم "مقدّمة في تاريخ الحضارات القديمة"، كما أصدر مجلّة علمية باسم "سومر"، ووضع سلسلة كتب "المرشد إلى مواطن الآثار والحضارة".

كلّ هذه الجهود تحيل إلى أشكال متنوّعة من رعاية التاريخ؛ بعضها اندثر، أو يُشتَغَل به في الحد الأدنى، وفي كل الحالات لن نجد إلا جهوداً فردية متناثرة لا تجد من يحتضنها، ولا تجد الوسيلة كي تتمكّن من ميراث العراق التاريخي الضخم. خلف المأساة الكبيرة لآثار العراق، ثمّة بالتأكيد الكثير من المآسي الصغيرة التي لا تصل إلى أسماعنا من بلادٍ يغمرها الغبار والضجيج والدم.

المساهمون