طبقات المترجمين

28 أكتوبر 2024
مقطع من حروفية للفنّان الليبي علي عمر أرميص (1945 - 2021)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تُعتبر كتب التراجم جزءًا مهمًا من التراث الكتابي العربي، حيث تقدم سير الأعلام في مجالات المعرفة والعلوم والآداب، مثل "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي.
- هناك نقص في تصنيف المترجمين ضمن طبقات، رغم إشارات الجاحظ لوجودها قديمًا، ويُقترح أن يتولى البحث الترجمي المعاصر تصنيفهم وفق معايير نقدية حديثة.
- يُقترح تصنيف المترجمين العرب المعاصرين إلى فئتين: من يترجمون إلى العربية ومن يترجمون منها، مع التركيز على تجاربهم وتأثيرهم في المجتمع.

يحفل تراثنا الكتابي بأصناف من مؤلَّفات أُفردت لأعلام المعارف والعلوم والآداب العربية الإسلامية، والتي اشتهرت بـ"كُتُب التراجم"، لكونها كانت تعريفية بالرجال الذين برّزوا بأثرهم وإرثهم في اختصاصهم؛ وتنوّعت هذه الكتب، فوجدنا منها كُتُب طبقات المحدِّثين، والمفسّرين، والرواة، والأولياء، والمتكلّمين، والأطبّاء، والشعراء، إلخ. ويبدو ألّا كتاب ينازِع في الأهمية لدى الشعراء "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي في الترجمة بهم.

والواضح أنّ الترجمة المقصودة هنا، وفق المعرفة السائدة قديماً، كانت تُفيد جِماع سيَر الأعلام الشهيرين في علم أو فنّ، أو غيرهما، فيُعرَّف بالمذكورين في المؤلَّف كلّ واحد على حدة، بأن يُقدّم له بمكان مولده وتاريخه، ووسطه العائلي، وتدرّجه على درب التحصيل، وأساتذته، وشيوخه، وإجازاته، ومؤلَّفاته، ومناقبه، وتلامذته، ومكانته بين أهل بلده، وصِلاته بالعلماء ورجال السُّلطة، وأهمّ المواقف التي اتّخذها، وبإضافاته في علمه... والترجمة هنا غيرية، لأنّ مؤلّفها يكتب عن غيره، وليست سيرة ذاتية، وهي التي يكتبها بعضهم للتعريف بنفسه، كحال ابن خلدون في كتابه "التعريف بابن خلدون".

وإذا كان التقليد العربي المُفَيِّئ لأهل حرفة ضِمن منطق الطبقات معمولاً به في الثقافة العربية القديمة، فإن المثير للاستغراب عدم وجود مؤلَّف في القديم يصنّف المترجمين من لغة إلى أُخرى ضمن طبقات، على غرار ما فعل الجمحي - متأثّراً بطبقات ابن سعد - برصده الصلات بين فحول شعراء الجاهلية ونظرائهم في الإسلام؛ فامتداد الأعشى وزهير والنابغة لديه تجلّى على التوالي في جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم، علماً أنّ في كلام الجاحظ عن الترجمة والمترجمين ما يوحي بتوافر طبقات منهم، وأنّ عددهم على عهده كان وفيراً، نظراً لتشكيلهم جماعات عديدة وأجيالاً مختلفة.

لكلّ طبقة تصوّراتها وفهمها للترجمة يُميّزها عن سواها

أمام هذا الحيف أو السهو، لا أرى ضيراً في أن يضطلع البحث الترجمي المعاصر بتصنيف المترجمين القدامى إلى طبقات، بغاية التعرّف إلى مجالات اشتغالهم، وإلى أسلوبهم في الترجمة، وفق معايير نقدية حديثة ومختلفة، تراعي التطوّر الذي عرفته المعارف والعلوم، وما دام الاهتمام بهم لم يحظ بالعناية الكاملة والمستحقّة قديماً.

لكنْ، أليس الأَولى أن نولي هذه العناية إلى المترجمين العرب الحديثين؟ وهل من فائدة ستُجنى من تصنيف باحثينا لهؤلاء المترجمين العرب الحديثين ضمن طبقات، سيْراً على مهيع القدماء؟ وأيّ معلومات يُرام تقديمها في الوقت الحالي هي غير متوافرة في سجلّات كثيرة لدى مراكز البحث والجامعات والمؤسّسات العلمية؟ ألا يكون حريّاً بهم أن يركّزوا على تبيّن مدارس أو اتجاهات أو تيارات لدى مترجِمينا العرب؟ لكن، كيف يمكن تصنيف هؤلاء المترجمين وهُم ينتشرون على امتداد الوطن العربي وفي المهجر أيضاً، علماً بأنّهم يُصدرون أعمالهم في دُور نشر موزّعة بين العالم العربي وأُخرى غربية وغيرها؟

هكذا سيكون بوسع الباحثين، الذين قد يهمّهم الاشتغال بهذا الموضوع، أن يبتكروا منهجاً يلائم هذا النوع من البحث، وهُم مدعوّون إلى التفكير في ذلك، لأنّ مراكز البحث في الجامعات ومعاهد البحث العلمي منذورة للنهوض بنظير هذه المهمّات، ولعلّ البدء يكون بجرد هؤلاء المترجمين وأعمالهم، ليعكفوا عليها هُم وسواهم من المهتمّين بالموضوع. 

ولا غرو أنّ البدء في ما يخص ثقافتنا العربية يكون بتصنيف المترجمين إلى فئتَين أساسيّتين: الأُولى هي فئة المترجمين العرب من لغات العالم إلى العربية، والثانية هي فئة المترجمين العرب الذين يُعنون بترجمة أعمال عربية إلى لغات العالم، ولو أنّ عدد هذه الفئة أقلّ.

ويبدو لي أنّ أهمّ ما يُفترض أن يركَّز عليه لدى كلّ طبقة من المترجمين هو الكشف عن التصوّرات السائدة عن الترجمة في ما بين عناصرها، وعن حساسيتهم التي تميّزهم عن سواهم، وعن المفاهيم التي يتداولونها، وتجاربهم، ومواقفهم... وعن مدى انخراطهم في سيرورة الكتابة وإعادة الكتابة، وفي السيرورة التاريخية لمجتمعاتهم.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون