تكريماً لمسيرة المصوّر التركي الراحل آرا غولِر (1928- 2018)، افتتح معرض "إسطنبول المُتَعَدِّدَة" في مطلع الشهر الجاري، بالمتحف الذي يحمل اسم غولر بحي عثمان بك في إسطنبول، ويستمر حتى الثامن عشر من الشهر المقبل. يضم المعرض مجموعة مختارة من أرشيف صور الفنان التي التقطها على مدار أكثر من نصف قرن، والتي تعدُّ الذاكرة البصرية الأكثر حضوراً للمدينة التاريخية داخل تركيا وخارجها.
وإلى جانب الصور التي التقطها غولر لشخصيات بارزة مثل بابلو بيكاسو وسلفادور دالي وبرتراند راسل وإنديرا غاندي وتشرتل وغيرهم، يضمّ المعرض أيضاً 58 صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود، بالإضافة إلى أكثر من مئتي صورة رقمية لإسطنبول في مراحل مختلفة، التقطها غولر على مدار عقود أثناء تجوله في شوارع المدينة التاريخية، حاملاً كاميرته الـ"لايكا"، حتى لُقِّب بـ"عين إسطنبول".
أبرز ما يجمع بين الصور المختارة في المعرض أنها ترصد التغيرات التي شهدتها المناطق التاريخية للمدينة، مثل حيّ الفاتح وزِيرك، والبيوت الإسمنتية التي حلّت فيهما محل البيوت الخشبية، واختفاء البيوت القديمة والجوامع الأثرية والمقابر التي هُدمت. كما تكشف الصور أيضاً أثر هجرة عدد كبير من أتراك الأناضول إلى إسطنبول، والتحولات التي سببتها تلك الهجرات للمدينة، من النواحي المعمارية والاجتماعية والثقافية أيضاً.
صوّر عوالم المهمّشين وعُرف عنه بُغضه للصور السياحية
وبحكم ولادته في حي باي أوغلو الشهير في قلب إسطنبول عام 1928 لعائلة أرمنية، تمكن غولر من التقاط التحولات التي طرأت على وسط المدينة التي كانت تُدار من قبل العائلات اليونانية والأرمنية من أصحاب محلات شارع الاستقلال في باي أوغلو منذ المرحلة الأخيرة للدولة العثمانية حتى منتصف الخمسينيات. حيث بدأ غولر بنشر صوره في الصحف التركية منذ بداية الخمسينيات، ومع توتر العلاقات بين تركيا واليونان، بعد انتشار خبر قصف القنصلية التركية والبيت الذي ولد فيه أتاتورك بمدينة سالونيك في اليونان، تمكن غولر بكاميرته من تصوير انعكاسات هذا التطور، وصولاً إلى أحداث السادس والسابع من أيلول / سبتمبر المأساوية عام 1955، حيث تحوّل شارع الاستقلال إلى ساحة للصراع بين القوميين الأتراك والأقلية اليونانية والأرمنية في إسطنبول.
لمع اسم غولر بعد تلك الأحداث كمصور صحافي وصار من أبرز الأسماء في عالم التصوير بتركيا، وبدأ يُعرف خارجها أيضاً، وبدأ اسمه يرد في قوائم أفضل مصوري العالم. وفي العام نفسه، صار رئيساً لقسم التصوير الصحافي في مجلة "حياة" التركية، بالإضافة إلى عمله مع بعض الصحف والمجلات العالمية. كما حصل في العام التالي بألمانيا على لقب "سيّد اللايكا" الذي تمنحه شركة Leica لصناعة الكاميرات.
ويتضمن المعرض أيضاً بعض الكاميرات التي كان استخدمها غولر من هذا الطراز، والتي يعود بعضها إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي. بالإضافة إلى صورة أرشيفية لقصة نُشرت لغولر في صحيفة "خبر" التركية عام 1946، حيث بدأ حياته كاتباً للقصة القصيرة واستمر في كتابتها ونشرها، وتعد مجموعة "سنعيش بعد بابل" الصادرة عن دار "أراس" عام 1996 أبرز مجموعاته القصصية.
وبالإضافة إلى اهتمام غولر بمركز إسطنبول، يُلاحظ في الصور المُختارة اهتمامه بالأحياء الخلفية أيضاً، وقد عُرف عنه بغضه للصور السياحية لإسطنبول. فنجد من بين صوره المميزة بورتريهات لمهمشينَ غارقين في حياتهم اليومية بجوار المعمار العثماني، وعاطلين عن العمل وصيادين وشباب قادمين من قرى الأناضول وأطفال مشردين تحت ظلال إمبراطورية مهزومة. مع التركيز على مسألة صراع الهوية في تركيا، وتجلياته في عاصمة العثمانيين التي انفصلت عن ماضيها بعد الجمهورية.