صورةٌ للتنوّع الثقافي والديني: تمثال للإمام علي في تيرانا الألبانية

صورةٌ للتنوّع الثقافي والديني: تمثال للإمام علي في تيرانا الألبانية

03 مايو 2023
تمثال الإمام علي في تيرانا (العربي الجديد)
+ الخط -

يبدو أنّ ألبانيا، بحُكم خصوصيتها، محكومةٌ بأن يسبقها تعبير "أوّل" في وصف بعض ما فيها من تطوُّرات أو تجلّيات سياسية وثقافية منذ تأسيها حتى الآن. وهكذا كانت "أوّل دولة بغالبية مسلمة في أوروبا" (1912)، و"أوّل دولة بغالبية مسلمة ذات دستور علماني" (1914)، و"أوّل دولة بغالبية مسلمة تمنح حقّ الانتخاب للمرأة" (1920)، و"أوّل دولة بغالبية مسلمة في عصبة الأمم" (1920)، و"أوّل دولة إلحادية في العالم" (1967)، وأخيراً، هي "أوّلَ دولة في العالم تُقيم تمثالاً للإمام علي بن أبي طالب" (2023)، وذلك احتفالا بـ"يوم النوروز". وربّما يقودنا هذا إلى الإضاءة على خصوصية عيد النوروز في البلاد.


من عيد وثني إلى عيد ديني رسمي
من المعروف أنّ يوم النوروز، والذي يوافق الاعتدال الربيعي، ارتبط في مجتمعات الشرق بمعتقدات وممارسات واحتفالات تُعبّر عن البهجة بالخروج من البيات الشتوي إلى التجدُّد الربيعي الذي يشمل الطبيعة والبشر الذين يتفاءلون بموسم جيد يؤمّن لهم حُبّهم للحياة، وليس مجرّد استمرارهم على قيد الحياة. وقد ارتبط هذا التقليد أيضاً بالزرادشتية والسنة الفارسية واللغة الفارسية (ومعناه فيها "يوم جديد")، وشاع بهذا الاسم لدى الشعوب المجاورة، كالأكراد والأفغان والأتراك، واستمرّ كذلك بعد انتشار الإسلام وأخذ طابعاً إثنياً أو قومياً عند بعض الشعوب.

وهو، حسب "ويكيبيديا" في الإنكليزية وغيرها، عيدُ عطلة رسمية في إيران وأذربيجان والعراق وقرغيزستان. ونضيف إلى ذلك ألبانيا التي اعتمدته عطلةً رسمية منذ عام 1996، بناءً على رغبة الطائفة البكتاشية. ومع ذلك، يختلف هذا اليوم في ألبانيا عن غيره في العالم، ولذلك جرت فيه إزاحة الستار عن التمثال الضخم للإمام علي.

اعتُمد عيد النوروز عطلةً رسمية في ألبانيا منذ عام 1996

بعد إعلان ألبانيا في صيف 1967 "أوّلَ دولة إلحادية في التاريخ" نتيجةً للثورة الثقافية، التي استمرّت خلال 1964 - 1967، وشملت كالإعصار كلّ ألبانيا بترتيب رسمي من سلطة كانت تدّعي أنّ كلّ ما يجري يحدث بـ"اندفاع عفوي من الجماهير"، أُغلقت كلُّ المعابد وجُمع كلّ رجال الدين لإرسالهم إلى معسكرات عمل لتدريبهم على "مِهَن نافعة"، وأصبح كلُّ نشاط ديني (بما في ذلك ممارسة الصلاة في البيت) يُعتبر معادياً لـ"الدولة الإلحادية".

ولكن مع "ربيع أوروبا الشرقية"، الذي شمل ألبانيا، حدثت في عام 1989، ردّة عفوية فتحت المعابد، لتُرغم الحزب الحاكم على إعلان التعدُّدية السياسية والحرّيات الدينية، بينما انتقلت البلاد إلى حكم ديمقراطي عام 1992 مع دستور جديد اعترف بالأعياد الدينية "أعياداً قومية" تُعطّل فيها مؤسَّسات الدولة (أول يوم في عيدَي الفطر والأضحى للمسلمين، وعيد الميلاد والفصح للكاثوليك والأرثوذكس حسب التقويمَين الشرقي والغربي). وقد اكتمل الأمر بتخصيص يوم للطائفة البكتاشية التي رغبت أن تستقلّ بـ"يوم النوروز" عن المسلمين السنّة الذين يشكلون الغالبية في ألبانيا، ليصبح هناك اعترافٌ رسميّ بأربع ديانات.


البكتاشية مصدراً لثقافة قومية
صحيحٌ أنّ البكتاشية تُنسب إلى الحاج بكتاش (توفي عام 1271م)، الذي يُمثّل الصوفية الخراسانية، إلّا أنّها تحوّلت مع "المؤسّس الثاني" بالِم سلطان، في القرن السادس عشر، إلى طريقة دينية ذات هرمية منظَّمة وعقيدة مركَّبة يبرز منها التسامح مع كلّ الديانات والتشيُّع لآل البيت، وأخذت مكانةً خاصّة في الدولة العثمانية بحكم نفوذها في الجيش الإنكشاري، إلى أن جرى القضاء عليها في عام 1826 من قبل السلطان محمود الثاني ضمن التوجُّه لتحديث الجيش والدولة.

ومع أنّ الطريقة فقدت وجودها ونفوذها في المركز، إلّا أنّها انبعثت في الأطراف، وخاصّةً في ألبانيا التي تماهت فيها مع الحركة القومية المُطالِبة بالاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان لها دورها في الثقافة الألبانية القومية الجديدة.

الصورة
تمثال الإمام علي في تيرانا (العربي الجديد)
تمثال الإمام علي في تيرانا (العربي الجديد)

ويميل الباحثون إلى تفسير انتشار البكتاشية بين الألبان بما فيها من عناصر جامعة بين الأديان، وما فيها من تساهُل بالنسبة إلى الشعائر الدينية (الصلاة والصوم والحج)، حيث تقوم "التكية" مقام الجامع، وتُصبح مركزاً ثقافياً اجتماعياً يتميّز بمكتبة وتقاليد نسخ للمخطوطات وسماع الأشعار في مناسبات معيّنة، مثل المأتم الذي يُقام خلال الأيام العشرة الأولى من شهر محرّم وغيرها.

وبسبب ذلك، اشتهرت البكتاشية بشعراء كُثر كتبوا باللغة الألبانية؛ وكان من أشهرهم نعيم فراشري Naim Frashëri (1846-1900)، الذي مزج البكتاشية بالفكرة القومية الألبانية، وأصبح "شاعر النهضة القومية". وهكذا، بعد أن نشر "دفاتر بكتاشية" عام 1896، أصدر عام 1898 ملحمة "كربلاء" التي تضمّ أكثر من عشرة آلاف بيت، لتكون بذلك أوّل ملحمة في الأدب الألباني تُنشر باللغة الألبانية. ومع نعيم فراشري، برز في الجيل المؤسّس للاستقلال الألباني عام 1912 من يعتقد بإمكانية أن تكون البكتاشية "ديناً قومياً" للألبان.

انتقل المركز الروحي للطريقة البكتاشية من تركيا إلى تيرانا

ومع استقرار الدولة الألبانية المستقلّة في 1920، والتي شملت حوالي نصف الألبان، بقي أتباع الطريقة البكتاشية أقلّيةً في ألبانيا الجنوبية، بينما بقي القسم الآخر في كوسوفو ومقدونيا الغربية، جاءت التطوُّرات في تركيا الكمالية لتَصبّ في مصلحتها بعد إصدار البرلمان عام 1925 قانون إغلاق التكايا الصوفية في البلاد عام 1925؛ ومنها التكية الأُمّ في تركيا، والتي كانت تُعتبر المركز الروحي لأتباع الطريقة البكتاشية في العالم.

وقد تصادَف أنّ الرئيس الأعلى نيازي دده بابا كان ألبانياً، ولذلك ذهب إلى تيرانا حيث استقر هناك، وغدت تيرانا تحتضن التكية الأم للبكتاشية في العالم. ولكن مع إغلاق المعابد وإعلان ألبانيا "أوّل دولة إلحادية في العالم" عام 1967، لحق بالبكتاشية ما لحق بغيرها حتى 1990؛ حين انبعثت من جديد، ولكن بزخم أقلّ ممّا كانت عليه في السابق. ولكن نظراً لدورها في النهضة القومية الألبانية، عُوملت ككيان مساوٍ للإسلام السنّي والكاثوليكية والأرثوذكسية عام 1996، لكي يكون لها يوم عطلة رسمية في الدولة.

وقد اختارت رئاسة الطائفة يوم النوروز لكونها تعتبره اليوم الذي وُلد فيه الإمام علي، مع أنّ المصادر تختلف في اليوم الذي وُلد فيه، ولذلك يكون دائماً في مركز الاهتمام خلال هذا اليوم. وإذا كان هذا يظهر في اللوحات التي تتخيّله، فقد ظهر هذا العام بشكل مفاجئ مع إزاحة الستار عن تمثال ضخم يمثّل الإمام وهو يضع يده اليسرى على كتاب يمثّل العلم أو المعرفة استلهاماً للحديث النبوي الشائع "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها".

ومع أن هذا التمثال يشكّل سابقةً على مستوى العالَم، إلّا أنّ الصحافة الألبانية لم تنتبه لما يمثّله ولم يُثِر ما كان متوقَّعاً من ردّة فعل، حتى أنّ جريدة "بانوراما" اليومية كانت الوحيدة التي نشرَت صورةً له لمناسبة زيارة رئيس الدولة وزوجته وتهنئته لرئيس الطائفة إدموند دده بابا بيوم النوروز في تغطيتها لهذا الحدث.

الصورة
رئيس الجمهورية الألبانية وزوجته مع شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية ادموند دده بابا ويظهر وراءهم تمثال الإمام علي ولوحات تمثله (صحيفة "بانوراما")
رئيس الجمهورية الألبانية وزوجته مع شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية ادموند دده بابا ويظهر وراءهم تمثال الإمام علي (صحيفة "بانوراما")

وربما يعود ذلك إلى تراجُع الوجود البكتاشي في ألبانيا بالمقارنة مع "الفترة الذهبية" التي كانت لها في مرحلة النهضة القومية (1850 - 1912)، أو في عهد الدولة الألبانية الأولى (1920 - 1939)؛ حيث كشف آخر إحصاء للانتماء الديني للسكّان (2011) عن أنّ نسبة البكتاشيّين كانت حوالي 3%، بينما نسبة المسلمين السنّة حوالي 57%، وهو جزءٌ من المخاض الجديد لألبانيا ما بعد الشيوعية.

ولكنّ هذا التمثيل المستقلّ لها ضمن الأعياد الدينية، التي تحتفل بها الدولة وضمن تراثها الثقافي من عهد النهضة القومية الألبانية، حفظ لها مكانتها ضمن الخريطة الدينية والثقافية للألبان.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون