تقف هذه الزاوية من خلال أسئلة سريعة مع صوت جديد في الكتابة العربية، في محاولة لتبيّن ملامح وانشغالات الجيل العربي الجديد من الكتّاب. "تأثّري بالبيئة الثقافية في كولومبيا هو الرافد الأكبر لكتابتي الجديدة"، يقول الشاعر والمترجم المصري لـ"العربي الجديد".
■ كيف تفهم الكتابة الجديدة؟
- لا أفهمها، أكتبُها. والكتابة عندي فعلٌ جديد، فعل تجديد، واستكشاف. الكتابة الجديدة، لا كما قصد السؤال، بل كما تقول الصفة عن الاسم، هي قولُ شيء جديد. والجدّة هنا لا تخالف القِدم، بل تُخالف الاجتثاث. الجدُّ أبو الأب وأبو الأم، والجديد لا يكون جديدًا إن لم يكن أصيلًا. أنا أفهم إذن الكتابة التي لها جذر يُمكن لهُ أن يتّصل بجذور أقدم وأعمق، وكذلك لها فروع وأوراق وزهر جديد.
■ هل تشعر نفسك جزءًا من جيل أدبي له ملامحه؟ وما هي هذه الملامح؟
- نعم، ملامحه الاغتراب. مرّة أُخرى يتشكّل جيل أدبي في المنفى. أذكر الآن أدباء المهجر اللبنانيّين، وأبتسم إذ أتخيّل للحظة أنّنا، نحن الكتاب المصريّين خصوصًا، والعرب عمومًا، قد نستحيل يومًا جيلًا يدرسه الصغار ويلخّصه لهم أساتذة الامتحانات في سطر واحد، ويحدّدون ملامحه في أربع نقاط. قد يأتي بعد عقود طالب إعدادية ويُجيب عن هذا السؤال نفسه. أما أنا، فلا أعرف عن تلك الملامح سوى أحاديثي وأحمد زكريا في تركيا يقرأ كلٌّ منا قصيدته للآخر، أقرأ أنا له: "فرق توقيت"، ويقرأُ هو لي: "كأن الشرفة في السرداب"، وينحت كلٌّ في صاحبه ملامح الجيل المهزوم المنتصر.
مرّة أُخرى يتشكّل جيل أدبي عربي في المنفى
■ كيف هي علاقتك مع الأجيال السابقة؟
- علاقة محبّة، وتتلمذ، واحترام، وتقدير، وحنين. أجيالي السابقة من الشعراء والأستاذة وأدلّة الطُّرق أحياء وأموات. أقرأ فؤاد حداد وأقبّل يده بعد كلّ قصيدة. أقرأ المتنبي ولا أستطيع أن أجاوز قصيدة إلى تاليتها دون أن أُغلق الكتاب وأرفع رأسي، كما يقول رولان بارت. علاقتي بشعراء الأجيال التي سبقتني ممّن عرفتهم في مصر فيها محبّة، وصُحبة، وتأثير وتأثّر، قبل أن أُهاجر، وأشقَّ طريقًا لم أجد مَن شَقَّهُ من قبلي، فتتغيّر أجيالي السابقة. يصبح فابيو مورابيطو، الشاعر الإيطالي الذي كتب شعره ونثره كلّه في المكسيك بالإسبانية، بعدما كان وُلِد وعرف الدنيا في الإسكندرية. أبدأ في معرفة شعر أوراسيو بينابيديس، ورومولو بوستوس، ونيلسون روميرو، وأوريليو أرتورو، فينضاف إلى السلف سلفٌ، وإلى التراث تراث، وإلى اللسان لسان، وإلى الفتى ابن القبيلة، قبائل وقبائل تجعل منه ابنًا لآباء كثيرة.
■ كيف تصف علاقتك مع البيئة الثقافية في بلدك؟
- بلدي، أيُّ بلد؟ مصر، أم كولومبيا؟ أيهما بلدي أكثر الآن. إن كان السؤال عن مصر، بافتراض أنّ العلم لا يتشارك فيه الأصل والشبه، فالجواب أن علاقتي التي أرضى عنها مع البيئة الثقافية بدأت بعدما غادرت. قبل الهجرة، ومنذ خامسة عشري، دخلتُ إلى عالم الشعر والشعراء في مصر، كتبت كلّ لون من ألوان الشعر، شجَّعوني كثيرًا، أمَّلوا فيَّ كثيرًا، أحبُّوني وكانوا لي خير صحبة في صغري، وكلّهم كانوا يكبرونني بعشر سنوات أو أكثر. لكنّني بعد الهزيمة ابتعدتُ عن كلّ ذلك الوسط. وانكببت وحدي على تعلّم لسان جديد وأدب جديد، كأنني عجزت عن قول شيء آخر بلساني الأول، بعدما دنَّس دم الحقيقة كلّ حرف ممكن.
بعد ذلك، وبعدما أتيت إلى هنا، وبدأت "حياة جديدة"، ثم بدأتُ في نشر ترجماتي ومقالاتي ونصوصي في صحف ومجلات عربية، وبعدما بدأتُ ترجماتي المنشورة في كتب تُتداول، بدأت علاقة جديدة بتلك البيئة الثقافية، علاقة الحضور الأول فيها للمُنتَجِ لا للمنتِجِ. لم أعد أنا هناك، لكن عملي ينوب عني، وهو الذي له علاقة بتلك البيئة الثقافية.
أما في بلدي الثاني كولومبيا، فإنني جزء من الحياة الثقافية والأدبية في البلد، ربما أكثر بكثير جدًا مما كنتُه في الحياة الثقافية والأدبية في مصر. ربما لأنني هاجرت في سنّ بداية انعكافي على الكتابة والترجمة والصحافة كشغل أساسي في الحياة. هنا أتمّ عامي الثالث وشغلي الأول والأكبر هو الكتابة والثقافة والفنّ. أظن أن احتكاكي وتأثّري وتأثيري في البيئة الثقافية والأدبية في كولومبيا هي الرافد الأكبر لكتابتي "الجديدة".
■ كيف صدر كتابك الأول؟ وكم كان عمرك؟
- صدر كتابي الأول بالصدفة. لي صديق قديم اسمه كريستيان جارسون، طلبتُ منه يومًا أن يطبع لي بعض قصائدي في كتيّب لأقرأ منه في ليلة شعرية دعاني إليها بعض الأصدقاء الشعراء من فنزويلا وكولومبيا، اسمها "المجاز المهمَّش". يومًا طبع لي كريستيان كتيّبًا فيه عشر قصائد أو أقل، بعضها مترجم من العربية والآخر مكتوب بالإسبانية. قرأت تلك الليلة وظلت تلك النسخة الوحيدة تُرافقني في القراءات الشعرية عامًا كاملًا، وكلّما سُئلت عن الديوان الذي في يدي أقول إنه لم يصبح ديوانًا بعد، وأنا نسخة شخصية وحيدة. بعدها ظللتُ أكتب وأكتب، وتم مشروع الكتاب، وكان يزداد قصيدة أو اثنتين في كلّ طبعة، حتى أخذ شكله النهائي، وصمّمتْ غلافه ورسومه الداخلية مُصمّمة ورسامة كولومبية لي وللكتاب معها قصة عجيبة.
■ أين تنشر؟
- أنشر ورقيًّا ويوزَّع كتابي الشعري الأول هنا في كولومبيا، وإن حمله معهم قرّاء من بلدان مختلفة. كذلك أنشرُ في صحف ومجلّات عربية، وإسبانية. بالنسبة لترجماتي أنشرها مع دُور نشر عربية في دول مختلفة.
■ كيف تقرأ؟ وكيف تصف علاقتك مع القراءة: منهجية، مخططة، عفوية، عشوائية؟
- ليست لي علاقة منهجيّة ومخطّطة مع الحياة، ولا مع أيّ شيء فيها. قراءاتي عشوائية، لكنّ في عشوائيتها خيطَ نظام، وهو نظام الباحث عمّا يبحث عنه. هذه الطريقة في القراءة جعلتني أكتشف أكبر اهتماماتي في السنوات الأخيرة، وجعلت لكل من هذه الاهتمامات "رادارًا" ألتقط به الكتب التي تنتمي لكلّ من دوائر اهتمامي الجديدة. من تلك الدوائر الطبيعة، وعالما النبات والحيوان، وكتابات الهجرة والمنفى. أقرأ شعرًا أكثر من أيّ شيء غيره، لكنني أخيرًا بدأت أقرأ خارج الأدب أكثر ممّا كنت أفعل في السنوات الماضية.
■ هل تقرأ بلغة أخرى إلى جانب العربية؟
- للأسف، ولظروف معيشتي في بلد بعيد، أقرأ بالإسبانية أكثر مما أقرأ بالعربية في السنوات الأخيرة. بدأتُ محاولات كثيرة للعودة إلى القراءة الكثيفة بالعربية. أوصيت أمي في زيارتها لي بأن تحمل لي الكثير من الكتب من مكتبتي العربية بالقاهرة. أتت لي بنجيب محفوظ، والنفّري، والمتنبي، و"لزوميات" المعرّي، و"تهافت الفلاسفة"، وشرح البرقوقي، ورضوى عاشور، وفؤاد حدّاد، وإبراهيم أصلان، ونجيب سرور، ولفّة من الكتب العربية. لكنّني حتى الآن ومنذ جئت إلى هنا قبل أربع سنوات، أقرأ كثيرًا بالإسبانية، وإن كنت أستخدمها كذلك لقراءة آداب لغات أخرى. أقرأ كذلك بالإنكليزية، شعرًا أكثر من غيره.
■ كيف تنظر إلى الترجمة؟ وهل لديك رغبة في أن تُتَرجم أعمالُك؟
- يمكن لهذا السؤال أن يسمح لي بكتابة نصّ طويل كامل؛ فالترجمة عملي الأساسي ومهنتي الرئيسية. لكنني سأحاول الإجابة بوصفي كاتبًا لا مترجمًا، ينظر إلى الترجمة. أرى أن الترجمة – بوصفها الأدق والذي يتبع الاصطلاح – لا تشغلني كاتبًا وشاعرًا. عندما أكتب أكون مترجمًا لما أريد أن أقوله، أو ما أحسُّ برغبة في قوله. الترجمة في تلك اللحظة مثلها مثل التلقّي، شيئان برانيَّان لا أفكر فيهما. أما بعد الكتابة، فإن إمكانية الترجمة دائمًا فرصة للسفر، لسفر النصوص وهجرتها إلى عوالم أُخرى، وكلّ سفر باب سحري على عوالم خفيّة وغامضة وواعدة بآمال ومغامرات.
■ ماذا تكتب الآن؟ وما هو إصدارك القادم؟
- أكتب الآن قصائد ستنتمي إلى ديواني الثاني، وهو بالإسبانية كذلك. وأعمل على ديواني الأول بالعربية. لا أكتبه، فهو مكتوب متناثر، بل أجمعه وأحرِّره لتجهيز نشره بالعربية. كذلك أعمل على مشروع كتاب سردي في أدب الرحلة مع دار نشر مصرية واعدة هي "دار وزيز". وعلى مستوى الصحافة، أكتب مقالات عن الشتات العربي في أميركا الجنوبية، ومقالات عن أدب وثقافة أميركا الجنوبية، قد تشكل مستقبلًا مشاريع كتب تجمعها.
بطاقة
أحمد محسن غنيم، شاعر ومترجِم من مواليد القاهرة عام 1995. نشر، العامَ الماضي، ديوانه الأول "مفكّرة المنفى" الذي كتبَه بالإسبانية في كولومبيا. يكتب الشعر بالعربية والإسبانية، إلى جانب المقالة، وأدب الرحلة. من ترجماته رواية "الكلبة" للكاتبة الكولومبية بيلار كينتانا ("الرافدين"، 2023).