اجتمعنا في ذلك اليوم بعد غياب طويل، لم نتكلّم كثيرًا، لم تتلامس أيدينا، لم يغونا الجوّ الجميل بإطلاق النّكات أو الرّكض. قصدنا الدّير، إنّها صلاة الغياب، أجراس الكنيسة تنظّف الجوّ، تلمّست منها أن تدخل إلى قلبي وتنظّفه من أدران ما عرفه من أحزان سببّها لي عماد. نظرتُ إلى السّماء طويلًا، تنفستُ عميقًا، ثمّ مشيت إلى الكنيسة كأنّ بساطًا امتدّ تحت قدميّ.
المكان واسع، رائحة البخور تُسكر الأرواح، راهبة تصّلّي بخشوع ووجل، كادت شمعتها تلفظ أنفاسها الأخيرة، كنتُ الأقرب إلى الكرسيّ الذي تجلس فيه، لم تنظر، أنا نظرتُ إليها طويلًا، سمعتُ فحيح أنفاسها اللاهبة، يداها كانتا فوق حجرها، ترتميان بطواعية وكأنّها أسلمتهما إلى قوّة ما غير مرئية، بينما كانت يداي فوق خشبة المقعد، ويداه تلتقطان صورًا للمكان.
- أنتِ.
- أنا؟
- نعم أنتِ، هيّا، تعالي معي، قومي الآن وكفاك ادّعاءً.
- من أنت؟
- هل تحاولين خداعي؟ ألستِ من دعاني؟
- عذرًا ولكنّي لا أعرفك... ربّما باتت ذاكرتي ضعيفة هذه الآونة.
- لا وقت لديّ لأضيعه، هل أنت جاهزة؟ هل أحضرتِ معك ما نحتاج إليه؟
- أوووه، يبدو أنّي نسيت تمامًا. هلّا ذكّرتني بمهمّتنا التي جئنا من أجلها؟
مشى الرّجل ذو العباءة السّوداء مغتاظًا منّي، وقد أظهر ما أمكنه من نفاد صبره في محادثتي. لحقتُ به، كان سريع الخطو وكأنّه يمشي فوق الرّيح، دخل غرفة معتمة، يكسر ظلمتها صليب مضيء بلون أحمر خافت، وقفت بباب الغرفة، ثمّ وجدتني أندسّ في العتمة فأجد كرسيًّا وأجلس، كنتُ أريده أن يصرخ، لكنّه بدلًا من ذلك أشار إليّ أن أقترب، قمتُ من مكاني أتعرقل فيما يفصلني عنه من مقاعد. وحين قابلته وجهًا لوجه، بدا لي أنّي أعرفه.
لم يمهلني كي أتذكّر، أخرجَ من جيب عباءته سكّينًا، وغرزها في قلبي، شهقتُ، أمسكتُ صدري، لكنّني لم أشعر بألم، لم أنزف ولم أَخف. نظرتُ إلى السكّين المغروزة في منتصف صدري، راح لونها يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى الأخضر، وما إن استحال أخضر ناصعًا حتّى وجدتُني في منتصف غابة، أشجارها عالية وكثيفة جدًّا، تترك المنتصف ساحة للمشي ولضباب الجبال البعيدة كي يستقرّ فيها، لمحتُ كوخًا، هرولتُ أريد أن أتّقي المطر الذي انهمر غزيرًا.
على باب الكوخ الخشبيّ، وقفت سيّدة، لم تقل كلمة واحدة، صمتُها أدخلني خلفها، وضعت الشّمعة التي في يدها فوق طاولة تتوسط الغرفة، واختفت. نظرتُ حولي، المدفأة مشتعلة، لهبها صافٍ، اقتربتُ أريد الدّفء، مددتُ يدي فإذا بيدٍ تمسكها، ارتعدتُ، طفلة تقف في زاوية المدفأة، فستانها مخمليّ أحمر، شعرها بنيّ، خصلاته متماوجة، تتمايل بخفّة، عيناها واسعتان، حادّتا السّواد، بشرتها سمراء، لم تقل شيئًا، ظلّت تنظر إليّ، استأنستُ بوسع عينيها، براءة خاطفة جعلتني أسيرة النّظر إليها.
لم نتكلّم، لكنّني عرفتُ أنّها قريبة من روحي، ظلّت تنظر إليّ وهي تتمايل وكسرات فستانها الأحمر تتمايل، سطع خلفها نور خفيض، رأيت منه حافّة من إسمنت، تجلس عليها قطّة، وهناك كنتُ أركض بخفّة، فوق الحافّة، وكانت أمّي تصرخ خوفًا من أن أقع، لكنّني كنتُ مسحورة بخفّة اللعب، أتنطّط فوق الحافّة التي تعلو الأرض بشبرين، كنتُ سعيدة كأنّي طير يحلّق، انفتح باب البيت، وخرجت أمّيّ، انتبهت فوددتُ أن ألحق بها بسرعة، وقعتُ فوق الحافّة، صرختُ بوجع، ناديتُ أمّي ولكنّها لم تلتفت ولم تسمع بكائي، حاولت أن أنهض، كانت رجلي مكسورة، وعيني تنزف، فزحفتُ حتّى وصلت عتبة البيت. "أمّي لا تتركيني... إلى أين تذهبين؟ أمّي عودي. أخاف أن أبقى وحدي في البيت. أمّي خذيني معك"، لكنّها لم تلتفت، لم تكن تسمعني، ولم تنظر نحوي وهي تخطو خطوة الغياب الأخيرة.
سألت الطفلة إن كانت قد رأت أمّي، أومأت برأسها إيجابًا، فسألتها عن مكانها فاختفت. وكذلك اختفت طاقة النّور خلفها، وبقيت وحدي يدي ممتدّة إلى دفء النّار، التي انتبهتُ أنّها خمدت. كان الطّقس قد صحا في الخارج، قمت لأخرج، فتحت الباب فوجدتُ الرّجل ذا العباءة السّوداء، يقف حاملًا صليبًا يضعه ملامسًا جبهته، تفقّدتُ السكّين، كانت قد اختفت، لكنّ فتحة بقيت مكانها، وضعتُ يدي فوقها، فوجدتُ عماد ملقى على الأرض، كان غارقًا بدمائه ووجهه مبستم.
جرس الكنسية يدقّ، إنّها ساعة الغياب، أربعة أشخاص يدخلون، يرسمون علامة الصليب، الراهبة لا تزال تصلّي، عيناي تغشاهما شبه غمامة، الصّليب الأحمر الكبير المرسوم بجانب قبّة الكنيسة لا يزال هناك، ولكن أين عماد؟ هل تركني من جديد؟
وأنا أقوم من مقعدي، سقطت قلادتي وتدحرجت حبّة اللؤلؤ التي فيها، قرّبتها منّي، مستعينة بالعكاز الذي رافقني منذ حادثة سقوطي من فوق سلّم البيت وأنا أركض خلف نعش أمّي، أمسكتُ القلادة، مسحتُها وقبّلتها، سرتُ نحو المقعد الخلفيّ الذي تركت فيه عماد جالسًا، كان فارغًا، أين ذهب؟ هل غيّر رأيه؟ وعدني أن نقابل الخوري كي نرتّب للزفاف، شعرتُ ببرد لاسع، أردتُ الخروج بسرعة، علّني ألحق به قبل أن يبتعد بالسّيّارة، أدرت نظري في القاعة، بدت مختلفة، صدى صمتها يخيفني، المقاعد الشاغرة تهرول خلفي، وبابها ينطبق فلا أجد مخرجًا.
"أين ذهب الجميع؟" الأشخاص الأربعة اختفوا، الرّاهبة اختفت، رائحة البخور والشموع المضاءة الصّغيرة اختفت، رجل ملتحٍ، في يده عكّاز، يجلس بوقار، أتفادى أن أصطدم باللوحة المعرّفة بالقديس الذي سُمّي باسمه الدّير، أشعر بضيق، أرفع رأسي إلى الأعلى، فأرى صورة عماد معلّقة فوق باب الكنيسة الخلفيّ، رافعًا يده بإشارة توحي بالسّلام، هل صار عماد راهبًا؟ أهرول، أخرج من الباب، النور يدهم عينيّ، يدٌ صغيرة تمسك بيدي، فستاني الأحمر ترفرف به الرّيح وأطير.
* كاتبة من فلسطين