صدر قديماً: "دفاعٌ عن البلاغة" لـ أحمد حسن الزيّات

02 ابريل 2022
أحمد حسن الزيّات في بورتريه لأنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

"لا يُدافَع عن كائن ميّت، لكنْ عن وليدٍ فتيّ". هذه هي القناعة التي لازمَتني وأنا أُعيد مطالعة كتاب "دِفاع عن البلاغة" (1945) للأديب المصريّ أحمد حسن الزيّات، الذي يصادف اليوم ذكرى ميلاده (1885 ــ 1968). هذا النصّ المتين هو في ظاهره منافحةٌ عمّا اصطُلِح عليه، في التاريخ الثقافي العربي، بعِلم البلاغة. ولكنّه في الحقيقة دفاعٌ عن مَولود لغويّ - معرفيّ جديدٍ، نشأ على أنقاضه، حتّى وإنْ حافظ على اسمه القديم هذا (البلاغة)، فخُيّل له ولقارئه أنّه بصدد إصلاح هذا الحقل المُتقادِم وإحيائه بعد مواتٍ.

ولكنّنا عندما نعمّق النّظر في الفصول الأربعة التي يتألّف منها الكتاب، والنماذج الأدبيّة العديدة التي عَرضها الزيّات طيلة أكثر من مئتي صفحةٍ، ندرك، دون أدنى صعوبة، أنّه يتطرّق إلى إصلاح اللغة العربيّة وحقولها التعبيريّة والفنيّة قاطبة، وهي تشمل الأدب والصّحافة والخطاب السياسي والفنّي وغيره، لتكون قادرة على مواجهة تحدّيات الحداثة وصَدْمتها العنيفة.

لم تكن دعوتُه هذه مقترنة بمشروع إحياء الصور البلاغيّة التي باتت مترهّلة من فَرط الاستعمال، ولا الحثّ على اعتماد التّراكيب المعضلة والعبارات المَدْحيّة التي طالما استخدمها كُتّاب المناسبات، وإنما تهدف إلى توعية مستخدمي العربية المعاصرة بضرورة صياغةٍ واضحةٍ للكلام الفصيح، تبلغ أهدافَها التواصليّة المَرسومة ضمن سياقات التفاعل الجديدة التي تحيط بالوعي. فهذا الكتاب، في كُنهه، تحليلٌ معمق لإمكانيّات انبجاس جماليّة حديثة في النّصوص العربيّة المعاصرة، ومن أعلامها طه حسين والعقّاد والمازني والرافعي، وحتى بعض الكتّاب الآخرين الذين كانوا وقتئذٍ شبابًا مغمورين، مثل توفيق الحكيم ومحمد مندور.

تحديث اللغة العربية لا يعني القطْع مع مواردها الكلاسيكية

وقد أبان صاحب "وحي الرسالة" أنّ تحديث المضامين المعرفية والفنّية والثورة على الأفكار البالية يمكن أن يصاغا في لغة بليغة تراعي مقتضيات الذوق وتحترم جزالة الكلام دون السقوط في التعقيد والتعْمِية. ومن الفصول الطريفة، في هذا الكتاب، نقده للتيّارات الرمزية آنذاكَ وللقَصيدة الحُرّة والنثر الشعري الغامض، وهي أجناسٌ بدأت تكتسح الساحة الأدبية، في تلك السنوات، على يَد روّاد جريئين مثل نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وغيرهما. وأكّد، في هذا الصدد، أنّ غياب المَعنى المعقول وانعدام المضمون الواضح، لا يمكن أن يُبَرَّرا بالرغبة في التلاعب بالكلمات وجَعل هذا التلاعب ماهيّة الفنّ، بتعلّة أنّه يجوز للأديب المعاصر ما لا يجوز لغيره.

كما ترتكز فصول الكتاب على برهنةٍ متماسكة مَفادُها أنّ تحديث اللغة العربية لا يعني القَطعَ مع مواردها الكلاسيكية، ومع ما في خزائنها من التراكيب والعبارات، وإنّما إعادة تشكيلٍ لها، بما يضمن التواصل الواضح والخطاب المتين. فالحَداثة وليدة الاستخدام الواعي لمكوّنات اللغة، بحيث تكون في خدمة الفكر والمجتمع وتُسهم في تحقيق الوظائف الرئيسة للغة، من دون الإخلال لا بجمالية الخطاب في الحقل الأدبيّ، ولا بوضوحه في ميدان السياسة والفكر والتأثير الاجتماعي.

غلاف دفاع عن البلاغة

وغنيٌّ عن القول إنّ حَسن الزيات، وهو أحد أركان النهضة الأدبية، كتَب "دفاعَه" هذا ببلاغةٍ عالية، حيث وظّف قوّة الوسائل التعبيريّة من أجل الاستدلال على كلّ فكرةٍ عَرضها وتحليلٍ أفادَه. وبقيَ أن نَسأل اليوم عن صوابية الآراء التي ذهب إليها الزيّات، ومآل آرائِهِ بعد مضيّ أزيدَ من سبعة عقود على إطلاقها.

فباستثناء أحكام جزئيّة لا تؤثر في نَظريّته العامّة، يظلّ هذا الدفاع وجيهًا وقائمًا إلى حدّ الساعة، بل ضروريًّا ربما أكثر ممّا كان عليه بالأمس. كما تظلّ القضايا المطروحة، مثل مكانة العامّيات في المشهد اللغوي، وتحديث الفصحى، ودَور المجامِع اللغوية، وأسلوب الصّحافة، وتيسير النحو، والتوليد المعجمي، وغيرها، قائمة بنفس الأهمّية. ذلك أنها لا تتعلّق بعَصرٍ محدود، قدر تعلّقها بماهية اللغة في اشتباكها بوَقائع التاريخ وتحوّلات الفكر ومراوحتها بين مواردها القديمة ومآلاتها الحديثة، وهذا شأن كلّ اللغات بلا استثناءٍ. فلذلك ينطبق ما قاله ليس فقط على الضاد، بل وعلى اللغات الغربية التي تشاركنا القُربَ الجغرافيّ وتغيّرات التاريخ المعاصر، وقد ينطبق حتّى على الثقافات النّائية كاليابانية والأميركية اللاتينية التي عاشت نفس نماذجنا التحوّلية. 

انتقد غياب المَعنى المعقول وانعدام المضمون بتعلّة الفن

لذلك، ليس الكتاب دفاعًا عن البلاغة العربية فحسب، بقدر ما هو كلامٌ في حداثة الخطاب والفكر وآليات تطوير النظرة للعالم واللغة إثْر حرب عالمية ثانية هزّت ثوابت التاريخ، وأجبرت الإنسان على إعادة النظر في طرق تعبيره وتفكيره ودور اللغة في صنع هذا "النظام العالمي الجديد" الذي تشكّل إثْر الحرب، وإيلاء دورٍ رئيس لجمالية الكلام ورهافَة الذوق، بما هي مَلكاتٌ ثابتة في الإنسان، ولا بد أن تظل حيّةً لدَيه، فلا يستكين للتفاهة ولا للتعمية. وقد ساعدَ الكاتبَ اطّلاعُه على الآداب العالمية، كالفرنسية والإنكليزية، واستناده إلى حيّويتها وتأثيرها في آداب الضفّة الأخرى من المتوسّط، ما وسّع آفاق نظريته التي تستحق أن تُزارَ.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون