قال نادل المقهي: أفي هذه السنّ وتبكي؟!، قلتُ: نعم!
إنّه لا يعلم وأنا أشاهد شيرين أبو عاقلة مغدورةً برصاص جريمة الاحتلال أنّ الفقيدة قد أصبحت من زمان فردًا من عائلتي، أختًا أو بنت عمّ أو بنت خالة. وأنّ ابنتي الصّغرى تنتظر إمضاءها الصحافي وهي تنهي مراسلتها فتعيدها معها: "شيرين أبو عاقلة، القدس، فلسطين المحتلّة".
نعم شرقتُ بدمعي كما يليق بالرّجل أن يبكي بعد فلسطين، أيقونةً من أيقوناتها. فشيرين أبو عاقلة ورفيقات دربها لسن مجرّد ناقلات أخبار من ساحة فلسطين المشتعلة، بل هنّ مقاتلات في الصفوف الأولى من أجل الخبر الصحافي والحقيقة كما هي. وحين سقطت شيرين في ساحة الشرف الصحافي سقطت معها أراجيف الكيان الغاصب بل كلّ المواثيق الدولية التي تحمي الصحافيين فتحوّلهم دولة الاحتلال إلي أهدافٍ للقنّاصة المجرمين.
تميّزت شيرين أبو عاقلة بميزتين منذ أوّل ظهورها في السنة الأولى من بثّ قناة الجزيرة سنة 1997 هما: رخامة صوتها وعذوبته كأنها ترانيم كنسية بنبرة لا تخطئ الأذن صدقهَا، و مجازفتها في اختيار خلفية الصورة التي تنقل منها الحدث كمقاتل شجاع لا يدير ظهره للمعركة. لهذا كثيراً ما اهتزّت قلوبنا جزعًا عليها والجنديُ المحتلّ يزاحمها ويضايقها. وبهذا قدّمت رسالتها الصحافية كأنبل ما يكون وخاضت في سبيل ذلك معاركها مع الرصاص والغاز الخانق وسفالة المحتلّ لا يمنعها في ذلك حرّ ولا قرّ.
ها نحن نودّع شيرين أبو عاقلة وكأنّ جزءاً آخر من أرضنا قد احتلّ. ونعزّي أنفسنا بنجمة قد أفلت من سمائنا. ولكن واهم من يعتقد أنّ الرصاصة الغادرة التي قتلت شيرين ستقتل الحقيقة وتغتالها. فليس أوضح من الصورة الآن التي حرص الكيان على طمسها فأعاد اغتيال شيرين تركيبها: شعب من الجبّارين أعزل يقاوم وطغمة من المحتلّين التّتار تغتصب حقّاً وأرضًا.
نعم أيها النّادل! في هذا العمر وأبكي بكاء الرجال المقهورين.. ولا أخجل!
سلامًا في الخالدين..
سلامًا يا روح شعبنا العظيم بفلسطين الجريحة..
سلاما أيها الصّوت الأبي كحصان في المنحدرات..
سلامَ الضفّة والقطاع وقدس الله وكلّ حبّة تراب من البحر إلى النّهر..
سلامَ البندقية والشّال والكوفيّة..
سلامًا شيرين أبو عاقلة.. سلامًا أيتها الجميلة كفلسطين...
* كاتب من تونس