على مستوى الخطاب الرسمي، لا شكّ بأن التراث يأخذ مكانة أساسية في تونس، حيث نجد عناية ذات أبعاد ثقافية وتشريعية وسياحية لا يمكن إنكارها. غير أن هذا الحرص الرسمي على التراث لن نجد له الكثير من التمظهر في الواقع؛ يكفي أن ننظر في شبكة المتاحف التونسية أو المواقع الأثرية حتى نكتشف رثاثة الكثير منها وغياب إشعاعها ونشاطها، وكذلك الأمر لو نظرنا في الشق الآخر من التراث؛ اللامادي منه، والذي يعاني من سوء توثيقه وإهدار الكثير منه عبر الإهمال وغياب الوعي بقيمته.
من اللافت أن وزارة الثقافة التونسية حريصة على مجموعة من التظاهرات التي تثمّن التراث بغض النظر عما يدور على أرض الواقع، وأبرز هذه التظاهرات "شهر التراث" الذي تنطلق فعالياته غداً الأحد 18 نيسان/ إبريل وتتواصل حتى 18 أيار/ مايو 2021.
هذه هي الدورة الثلاثون من التظاهرة، وستقام تحت شعار "تراثنا رأسمالنا" وقد أشار أحمد شعبان، مدير عام التراث في وزارة الثقافة، في فيديو ترويجي، إلى أن هذا الشعار يؤكّد على إمكانية "توظيف التراث وتثمينه واستثماره كمصدر من مصادر الثروة الوطنية، وإمكانية مساهمته في إنعاش الاقتصاد الوطني"، كما أشار إلى أن هذا الشعار يتضمّن دعوة ضمنية لإشراك الأفراد والمجتمع المدني إلى جانب أجهزة الدولة في العناية بالتراث.
يبدو "شهر التراث" تظاهرة هامشية ضمن دورة الحياة الثقافية
لكن هذه الدعوة لا تستند إلى مسوّغات كثيرة على أرض الواقع، من ذلك أن التظاهرة تنطلق دون برنامج واضح، وهو ما يفرز ضبابية ويحصر تلقّي ما تقدّمه التظاهرة في فئة قليلة من الجمهور. ولو عدنا بالذاكرة إلى الدورات السابقة لن نجد أن "شهر التراث" قد حقّق إشعاعاً حيث يبدو هامشياً ضمن دورة الحياة الثقافية على الرغم من المدة الزمنية التي يستغرقها.
تبرّر وزارة الثقافة موعد إطلاق التظاهرة سنوياً في 18 نيسان/ إبريل بكونه تاريخاً يقابل "اليوم العالمي للمواقع والمعالم الأثرية" وينتهي "شهر التراث" في 18 أيار/ مايو سنوياً، وهو اليوم العالمي للمتاحف. يوحي ذلك بأن "شهر التراث" مندرج ضمن روزنامة عالمية، لكن واقعه على عكس ذلك تماماً فهو يجد صعوبة حتى على مستوى الإشعاع المحلي.
مرور عقود ثلاثة على إطلاق تظاهرة "شهر التراث" لم يتجلّ في تصوّراته وبرامجه بعد. لا تزال التظاهرة أقرب إلى محاولات تجريبية، وهي محكومة بحلقات بيروقراطية وبرؤية فولكلورية باتت عاملاً من عوامل تنفير المتلقّي، سواء بتلك العروض الروتينية للمنتجات الحِرَفية أو بتنظيم الندوات التي يتحدّث فيها المتخصّصون في التراث في ما بينهم.
لقد جرت مياه كثيرة تحت جسر الذائقة الجماهيرية في ثلاثين عاماً لكن الفهم الرسمي لتثمين التراث ظلّ على حاله. وفي نفس الفترة الزمنية تغيّر مفهوم التراث، فكراً وممارسة، في حين أن تصوّرات العناية به لا تزال تراوح مكانها.