شهرٌ للأُلفة الجامِعة.. عن الفن وفضائله الروحانية في رمضان

14 ابريل 2022
مساء رمضاني في طرابلس، ليبيا، نيسان/ إبريل الجاري (Getty)
+ الخط -

لا تخلو أيّة مدينة عربيّة من الاحتفال بشهر رمضان، تلقائيّاً أو بصفة منظّمة من خلال البرامج الثقافيّة. وهو ما يبدو مع تجلّيات التّراث المادّي واللّامادي بوصفه موضوعاً يلتفّ حوله النّاس في أشكال مهرجانيّة، بما يدعم الرّابطة السّوسيو - ثقافيّة، خصوصاً في علاقة الأفراد بالمشترك الدّيني والجمالي والحضاري وبالذّاكرة الثقافيّة.

وسواء تعلّق الأمر بظواهر التسوّق أو بظواهر التذوّق، فإنّ للفنون نصيباً في تجلّيات المدينة وفي عزّ احتفاليّتها. وذلك من التجلّيات المدينية المحمودة التي تحثّ على المحافظة عليها، إذ هي نوع من المقاومة في زمن مُعولَم قضى على الكثير من الخصوصيّات الثقافيّة. وأنْ يقع تشغيل الفوانيس في خدمة عروض الليالي السّاهرة، إلى جانب طقوس العبادة، فذلك أكثر من مجرّد ضوء وإضاءة؛ إذ قد يحيل إلى فضائل "النّور" وحضوره الرمزيّ بين أرجاء المدينة العامرة، فضلاً عمّا يوفّره اللّيل من فرص التجلّي، حيث تسترخي النّفوس وتفيض المشاعر ويلمع الوجد أكثر فأكثر، وتزهر معالم الحياة من جديد... وتلك فرصة سانحة يبحث عنها الفنّانون لتجسيد حضورهم بين ربوع المدينة واستعادة عشق قديم لذاكرة الأمكنة الجامعة.

هكذا، يلتفّ النّاس أكثر حول مواضيع شديدة الصلة بالهويّة والمحلّيات والذاكرة الجماعيّة والتراث، بشكل أكثر قدرة على تحقيق روح المودّة والاجتماع والاحتفال، بالتّوازي مع المناجاة واحتفاليّاتها الرّوحيّة. ومن قدرة الفنّ أن يُعيد استثمار البُعد الرّوحاني باتّجاه إحياء مشاعر "الألفة الجامعة على قاعدة المودّة"، بلغة الماوردي في كتابه "أدب الدّنيا والدّين".

ولا ريب أنّ الرّوحانيَّ قادرٌ على تحقيق الاجتماع نحو تطهير النّفس (catharsis)، باللّغة الأرسطيّة، تطهيراً من عنف اليومي ومن مخلّفات الأيديولوجيا وصلَفها المتعجرف، وقادر على توجيه الطّاقة الإنسانيّة إلى الدّوافع الخلّاقة الخادمة لقيَم التّفاهم والتّعقّل والتّسامح في إطار مدينة حيّة. مدينة تنشط اجتماعيّاً من خلال ألفة النّفوس على أساس المودّة والإيثار وليس فقط على أساس المبادلات التّجاريّة وقانون المنافع الرّبحيّة.

تنشط المدن عبر ألفة النفوس وليس فقط على أساس المنافع

هي عودة إلى هذا الصّفاء المنشود في بنية العلاقات، وهذه المودّة الخلّاقة لممكنات التّواصل، وهذه المصالحة مع المكان التّاريخي والمدينة العربيّة الإسلاميّة في احتفاليّتها التراثيّة، التي قد تعاني الهجر والتّهميش في غير هذا الشهر، بحُكم تغيّر نمط العيش، فيما تكون البرامج الرّمضانيّة لدى البلديّات والمؤسّسات والجمعيّات الثقافيّة فرصة لاستعادة عبق المدينة من خلال الأعمال الفنّية المبثوثة هنا وهناك. فمثل هذه العودة تمثّل عروجاً ثقافيّاً دأبت عليه معارض فنّ الخطّ العربي، وعروض الموسيقات المحلّية في مهرجانات المدينة، والمسامرات الفكريّة، والعروض الفنيّة التّفاعليّة في السّاحة العامّة وفي "الفضاء العمومي" في شكله التقليديّ الضّارب في القدم، ذاك الذي تتهدّده العولمة ويحجبه تطوّر نمط الاستهلاك، يوماً بعد يوم.

وإذا ما وقع تدارك منظومة القيَم، الجماليّة والإيطيقيّة، التي يهدينا إيّاها شهر رمضان الكريم بالبلاد العربيّة (ومنها التّفاعل الإنساني والتّسامح والألفة والتّحابب والتّضامن والتّراحم والتّزاور والتّوادد والتّصالح والتّآزر، فضلاً عن قيَم العمل والتّفاني والتّضحية والصّدق والإتقان ونبذ التّوتر والعنف... )، ستكون البرمجة الثقافيّة هنا وهناك بمثابة مراجعة لما يمكن أن تكون عليه الذّاتيّة الجماعيّة باتجاه التطهّر من براثن التّباعد والحسابات الضيّقة إلى إحياء جماليّة الاجتماع وإعلاء روح المدينة الجامعة، بما يخدم قيم الإنسان الصّدوق، الخدوم، المتصالح مع هويّته والمتطلّع دوماً إلى الخير والجمال والمعرفة...

ومن شأن فنّ الرّقش (الأرابسك)، أو فنّ الخط العربي، على سبيل المثال، أن يجسّدا روح الوحدة وجماليّة التّآلف هذه من خلال تشابك المفردات والعلامات ضمن إيقاع متماسك وحركيّة بصريّة ملهمة وتأليف متوازن. إذ الألفة والتّآلف والتّأليف من صميم القيم التشكيليّة للفنون الإسلاميّة، قيم فنيّة ولكنّها تحيل إلى ما بعد الشكل البصري من أبعاد روحيّة وصوفيّة. ألم يقل التوحيدي، في رسالته حول فنّ الخطّ والكتابة، إنّ الخطّ "هندسة روحانيّة" ظهرت بآلة جسمانيّة؟

يجسّد الخط العربي وتشابك مفرداته جمالية التآلف الرمضاني

ومن شأن اجتماعيّة المعرفة الجماليّة أن تكون خير سند لهذا البناء الرّوحي، الهندسي، المديني، في كنف جنوح الذّات الإنسانيّة إلى تصفية علاقاتها مع نفسها على الأرض، على أساس الحبّ المتبادل والإيمان بالوطن والنّضال الأبديّ من أجل الإسهام في إيقاع الحياة، والدّفاع عن قيَم السّلم والحرّية داخل نسيج المجتمع. فمُراد الشكل في مدوّنة هذا التّراث الفنّي هو التّشاكل والتّناسج، كما هو الشأن في أعمال الفنّانين الحروفيّين والمعلّمين العرب، مثل ضياء العزاوي، وروضان بهيّة، ونجا المهداوي، وخالد شاهين، ومحمد النوري، وعاصم فرمان، وتاج السّر حسن، ومحمد سحنون، وعمر الجمني، ومنير الشعراني، وخاد الرّز، وعقيل الخطّاط، وخضير البورسعيدي - الذي يقيم معرضه الشامل هذه الأيّام بالقاهرة، بمناسبة الشهر الكريم، تحت عنوان "خضير عند بيكاسو" - وغيرهم ممّن يعرضون أعمالهم هذه الأيام بمختلف المدن العربيّة.

وما الاعتكاف والخلوة إلّا سعي الفرد إلى الارتقاء نحو وحدة الخلق والذّوبان في ملكوت السّماء، ليس هروباً وتيهاً وضياعاً كما في بعض الممارسات الرهبانيّة المغالية، بل لتدبّر شكل الحياة على الأرض وتثقيف عمران المدينة. فثمّة معادلة متوازنة ما بين جماليّة الوحدة ومبدأ التّوحيد في الثقافة الإسلاميّة، وهذا ألكسندر بابادوبولو في كتابه "جمالية الرسم الإسلامي" قد تحدّث عن نظام المفردات (الوحدات الزخرفيّة المتكرّرة) في فنون الرّقش والخطّ العربي والمعمار، فشبّه كلّ مفردة بحبّة السّبحة المتماسكة عناصرها: "كلّ حبّة إنّما هي تسبّح باسم الواحد الأحد"، والكلام له.

كما أنّ المركّبات المعماريّة المتلاحمة في بنية المدينة العربيّة العتيقة (البيوت والمحلّات والأقواس والشُّرفات...) إنّما هي تحديدٌ لحياة العمران وهندسةٌ لمنظومة قيَم العيش المشترك، روحيّاً ثمّ تاريخيّاً. ويكفي أن نذكر في هذا السّياق أعمال الفنّان الفلسطيني الرّاحل كمال بُلاطة، الذي ربط بين أسلَبَةِ الحروف والزّخارف وبين هندسة الفضاء التّجريدي ضمن وعيٍ جماليّ مقاوِم.

إنّ من شأن التفاف النّاس، من خلال العروض الفنيّة في شهر رمضان، حول ما هو جوهريّ في عمق ذواتهم، أن يدعم ثقتهم في أنفسهم وأن يضمن جدوى الانتماء ويثبت فيهم قيَم التّسامي والعزّة والكرامة على الأرض. بل ومن شأن البُعد الرّوحي أن يساعد أفراد المجتمع العربي الإسلامي على تجسيد مطلب التّعايش والاعتراف وإحياء قيمة المشترك الثقافي. وذلك من أهمّ مقوّمات القوّة لمواجهة تحدّيات الرّاهن وتوحيد الصّفوف من أجل البناء.

ومن قيمة أيّ تراث عظيم أنّه يمثل قوّة دافعة إلى التّفكّر والتّدبّر وتصميم آفاق المستقبل الممكن وليس مجرّد قوّة جاذبة إلى ماضٍ سعيد أو إلى مجدٍ تليد، بل ومن قوّة أيّ سموّ روحاني أنّه يحثّ على الإبداعيّة والعمل المشترك وتشبيك قيَم الفكر مع قيم الحياة، الجمالي مع الاجتماعي، خدمةً لمتطلّبات الحياة والوجود الفاعل على الأرض، وليس أن يخرجنا من التّاريخ وأن يجرّنا إلى اغتراب الفرديّات في عوالمها الباذخة وآفاقها الميتا ـ ثقافيّة الخاصّة.

إنّ الفنّ نظرٌ وتأمّل وحكمة، وخيرُ ما في الحكمة أنّها تدبيرٌ للاجتماع البنّاء وهندسةٌ لعلاقة الأفراد ببعضهم داخل مدينة تشعّ أنواراً وألواناً، مثلما هي تدبير لعلاقة الفرد بخالقه. والنظرُ مستمرّ...   


* باحث وتشكيلي من تونس

المساهمون