شمعةٌ للروح الفلسطينية

08 يناير 2024
طفلٌ فلسطيني وسط الأنقاض في دير البلح وسط غزّة، 7 كانون الثاني/ يناير 2023 (Getty)
+ الخط -

ألجأُ كثيراً إلى كلمة الروح للحديث عمّا يجري في غزّة فلسطين. ولعلّ هذا الاستخدام ينبع من العقل الباطني، أي بمعنى أنّني أستشعر أنّ الروح الفلسطينية مستهدَفة ومهدَّدة لدرجة تجعلني أستحضر الروح التي هي آخر قلاع الجسد أمام الحياة التي تزداد استحالتها عند الكثيرين في غزّة يوماً بعد يوم. ومن يراقب التصريحات الإجراميّة من الكيان الصهيوني، يعرف أنّ هؤلاء الناس لا حدّ لعدوانيتهم وكراهيتهم للكلّ الفلسطيني والعربي بشكل مطلق، وهي عدوانية وكراهية تعنيان حتماً القتل والدمار، وما غزّة إلّا حلقة من الحلقات الكثيرة لذلك.

وأمام تهديد الروحِ العربية في فلسطين، وربما لما بعدها لاحقاً، فإنّ سؤال الروح عن الروح يبقى أمانةً في دروبِ الموت الكثيرة التي تفرضها الصهيونية ومعها الغرب على الفلسطينيين. والمشكلة الصارخة في حرب الإبادة الصهيونية أنّ لها أركاناً متشعّبة تُذكّر بأبشع الجرائم الغربية ضدّ السود والسكّان الأصليّين في أميركا وكندا وغيرهما؛ فالغرب، بأدواته الرسمية، من الإعلام والجيوش والوسائل التعليمية والتثقيفية، مجيَّش ومعبأ لارتكاب الجرائم ضدّ الإنسانية التي تحدثُ بغزارة في غزّة، وأيضاً في الضفة الغربية.

من رأى تلك المذيعة الوقحة، جوليا بارتلي، وهي تصرخ في وجه مصطفى البرغوثي الذي كان يدافع عن حقوق الفلسطينيّين وروايتهم المشروعة، يعرف كم تعشّش العنصرية والعنف البنيوي في عقول أصنام الحضارة الغربية، من قناة "توك تي في" إلى جريدة "الصن" الرخيصة إلى جريدة "نيويورك تايمز" و"الغارديان" التي يغلّف كثيرٌ من كتّاب الرأي فيها كتاباتهم بالإنسانية بينما هي سمٌّ محقّق، مثل جوناثان فريدلاند وهوارد جاكبسون وغيرهم من أعلام البشاعة البرّاقة. فالمغزى دائماً في هذه الكتابات هو تبرئة المجرمين من خلال تصوير أعمال "إسرائيل" الشنيعة وكأنّها "شرّ لا بدّ منه"، بينما مقاوَمة الفلسطينيين المشروعة أعمال عنف وإرهاب من قبل ناس لا حدّ لكراهيتهم.

هذه الروح التي تخشاها الصهيونية وتعمل على محوها

إذن، الروح الفلسطينية مستهدَفة، وأقصد بالروح الإنسان الفلسطيني، نساءً ورجالاً وأطفالاً، وهواءً وحجراً وشجراً، وثقافةً وجمالاً، وصحافةً وطبّاً وفكراً، ونصّاً وسرداً وشعراً، ووجوداً. كلمة الروح هي جامعة مانعة، هي إمساك الفلسطيني بناصية العدل والحقّ والنضال المستميت من أجل الخلاص من الإذلال والشر اللذين هما الصهيونية وأدواتها الذليلة. لكنّ الروح الفلسطينية ليست كما يعتقد هذا المجتمع الصهيوني القاتل، فهي روحٌ ولادةٌ لمعان وحيوات لا تنطفئ جذوتها، ولا تهدأ حتى تستعيد عافيتها وينهض الفلسطيني حضوراً ومعنىً في هذا العالَم الذي يمرّ بوقت تتعالى فيه نية ونبرة وممارسة الدمار المطلق، ويخفت صوت الحكمة والإنسانية والجمال عنه.

الروح الفلسطينية، بإصرارها على النضال من أجل الحرية، تُحرّر العالَم من كبت الرضوخ للذلّ والكراهية والجبن الذي تريده الصهيونية وأدواتها الغربية وغيرها طريقةَ حياة؛ حيثُ يصمت الجميع ويرضخون للقوّة، وهي على هذه الشاكلة من الفجاجة والبشاعة. كأنّي أريد القول إنّ وقتاً آخر سيأتي، وإنّ عنجهية القوّة لا يمكن أن تطغى إلى الأبد. الركون إلى الجرائم وإبادة الآخرين كطريقة حياة، كما يفعلُ الإسرائيليون، لا يمكن أن يصنع سلاماً أو استقراراً لأحد. ستُصبغ أرواح الصهاينة بالسواد الحاقد لحدود لا تستقيم فيها حياتهم ولا تعتدل.

الروحُ الفلسطينية متّقدة في عيون الأطفال، وفي قلوب الفلسطينيين، هي روح حُبّ يرفعه العدل. وإن كان هذا الكلام بلاغة، فليكن كذلك، فلتُشعل البلاغة نيران الحقيقة. إنّ الصهيونية وأدواتها تخاف من الروحِ الفلسطينية، لذلك تركّز بكامل أدوات إجرامها على محاولة محوها، لأنّها تُذّكرها بخطيئتها الكبرى في تدمير فلسطين واحتلالها منذ عام 1948، وتُذكّرها بأنّها هوية قائمة على السرقة والإجرام المستمرّ من أجل حماية هذه السرقة.

روح الحرامية المشوَّهة لا يمكن أن تكون مستقرّة، وهي إن طالت ستندحر. إنّها روحٌ متوتّرة، بغيضة، لا ولن تستقيم إنسانيتها، لأنَّ الحب والعدل والأخلاق هي الأساس السليم والاستقرار، وهي التي تمكث في الأرض وتعمّرها حبّاً واحتراماً للجميع كما ينبغي.

لا أعرف إن كانت كلمة الروح توجد في كلّ لغةٍ على هذه البسيطة، وأشكّ أنها محرَّفة وقاتمة السواد في لغة القتلة الصهاينة، فهي ترتكز على سحق أرواح الآخرين، لكنّها حتماً توجد في حُبّ الفلسطينيّين لبلادهم، وفي رغبتهم الأمينة في البقاء معنىً ووجوداً، وفي تحرّرهم. وإنّي وهذه الدموع التي تُذرف بينما أكتبُ هذه الكلمات، أراها محرَّرة رغم كلّ الموت الذي يحرث قلوبنا حزناً وحسرةً على أهلنا وبلادنا فلسطين.

ارقدوا بسلامٍ يا شهداء بلادي
نحنُ سنحمل أرواحكم
ونكملُ الطريق
إنكم فينا
دموعٌ 
وآيات حياة.
اصعدوا يا شهداء بلادي
إلى حيث تريدون
حياتنا من كرمكم
من حُبّ الأرض فيكم
من وداعة الضوء في عيونكم
أنتم معلَّقات الحياة الأسمى
تسموا أرواحنا بكم
سنكتبُ حتى يطلّ النشيد
أملاً
وسنكتبكم أسماء لنا
نعيد الحياة إلى أرواحكم
فينا
سنراكم ماءً لعيوننا
والأرض
تكبر أشواقُها فينا
وكلّ الأرواح التي ستتذكّركم
سنلتقي بها
وستكونون فيها أهلنا
وحُبّنا
وأرواحنا في حُبّكم
نحبّكم يا شهداءنا
يا فقْدنا ويا ضعفنا ويا وعد حرّيتنا
أخشعُ بِاسمِ وجوهكم
أخشع باسم كلّ أعماركم
كلِّ الصور
كلِّ أمانيكم
وكلِّ أحزاننا
سنحيا فيكم بنا.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون