عامَ 2016، كانت التجربة الأولى للحكّاءة الفلسطينية - الأردنية سالي شلبي، المعروفة باسم "شلبية الحكواتية"، مع نصّ السيرة الشعبية للملك الظاهر بيبرس. وكمُمارِسةٍ لمهنة الحكواتية منذ 2005، عزفت عن تبنّي محتوى المادّة بسبب "ذكوريتها"، لكنّها بعد عام من ذلك، قرّرت تقديمها بطريقتها النسوية المعاصرة، والتي تُحافظ فيها على إرث هذا الفنّ، محترمةً الموروث الشفوي الذي تتَعامل معه وسياقه المجتمعي.
تعود شلبية هذه الأيام لتقدّم عروضاً جديدة من "سيرة الملك الظاهر بيبرص"، (تحرص على كتابة ولفظ اسمه بالصاد، للتمييز بين "بيبرس" التاريخي، و"بيبرص" الأسطوري)، في "فنّ وشاي"؛ أحد الفضاءات الثقافية في عمّان، من خلال أمسيات رمضانية تحمل عنوان "ليالي السيرة"، بدأت في 29 آذار/ مارس الماضي، وتنتظم كلّ أربعاء، حتى يوم غدٍ.
عن مشروع "سيرة الملك الظاهر بيبرص"، والتفكير فيه لأوّل مرّة، تقول الحكواتية في حديثها إلى "العربي الجديد": "تعرّفتُ إلى السيرة، من خلال الباحث الفرنسي من أصول سورية إياس حسن، عام 2016، في 'ملتقى الحكّائين العرب' بمدينة جرش، عندما عرض علينا المشروع، وقرأ لنا أجزاء من السيرة. في ذلك الحين، رفضتُ المُقترح، لأنّني أحسستُ أنّه نص ذكوري، عن رجل وموجَّه للرجال. لكنْ، بعد ذلك بعام، كنت في مُجاوَرة (ورشة) بمدينة أريحا الفلسطينية، تزامنت مع مُجاوَرة ثانية، لها علاقة بقصص تهجير النكبة عام 1948، مع الباحثة فيحاء عبد الهادي، ثم عُدت لألتقي هناك بحسن وقصص بيبرص مرّة أُخرى، والتي كان قد اشتغل على طباعتها وتحقيقها بصحبة باحثين آخرين. عندها لاحظت أنّ القصّة محبوكة بطريقة حِرَفية وأخّاذة، وألّا مصدر عنها سوى دفاتر الحكواتية الشامية، والمخطوطات المكتوبة بخطِّ اليد وباللهجة العامية، منذ العهد العثماني، إذ يُمكن ملاحظة المفردات التركية والفارسية فيها، وبلهجة غريبة بالنسبة إلينا اليوم".
أوّل امرأة عربية تحكي سيرة الظاهر بيبرس بشكل كامل
تضيف: "توجّهتُ إلى حسن مُجدّداً، واستفسرتُ منه حول إمكانية التصرّف في هذا النص، فلم يُمانع. على العكس، طرح عدّة تعديلات؛ عند هذا الحدّ، بدأتُ 'ألعب' بالنص، كما يُقال، وأغيّر فيه، مُستلّةً منه القصة الأساسية التي تتألّف من 18 مجلّداً، وتتضمّن ما يزيد عن 20 ألف صفحة، ومنذ سبع سنوات، وأنا أقرأ فيها، وأسرد في كلّ موسم رمضاني قصصاً منها، في مشروع مستمرّ منذ 2017. أكملت القراءة الأُولى من السيرة في خمس سنوات، وها أنا أقرأ منها من جديد".
توضّح صاحبة بودكاست "شلبيات" (2015 - 2019)، في حديثها إلى "العربي الجديد"، طريقة تعامُلها مع المشروع أثناء جائحة كورونا، وكيف بدأت بإعادة السرد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فقدّمت عروضاً من خلال "فيسبوك لايف" في شهر رمضان؛ حيث كانت تعرض كلَّ أسبوع إحدى قِصص السيرة على عدّة ليال.
كأيّ عمل له مرجعية تراثية، تُواجه الباحثَ والمشتغِل مشكلةٌ في الحصول على المصادر، وهذا الأمر قد يتحوّل إلى رحلة معرفية موازية، كما يخلق تلقّيات مختلفة بين الجمهور. عن هذا تقول شلبية لـ"العربي الجديد": "الظاهر بيبرص سيرة شعبية وليست تاريخاً. وبالتالي نحن لسنا أمام مصدر تاريخي بالمعنى العِلمي. وإنْ كان للملحمة جذور في بعض الوقائع التاريخية والشخصيات الحقيقية، إلّا أنّ العامِل الأسطوري والخيالي يلعب دوراً كبيراً في نسْجِها، وهذه الأسطورة الشعبية فيها مقدارٌ من الخرافة والخيال والمبالغة التي اختلقها الحكواتيّون على مرّ العصور من أجل التشويق. إذن، النصّ ليس تاريخياً، بل مستوحىً من التاريخ ومخيالٌ عنه. أنا لا أروي حقائق، وإنْ كانت الشخصيات والأحداث في إطارها العام قد حدثت فعلاً، لكنّها بالتأكيد ليست التاريخ الرسمي. ولا بدّ أن أُشير هنا إلى مسألة لغوية، وهي استخدام بيبرص (بالصاد) وليس بالسين، وذلك للتفريق بين الشخصيّتين التاريخية والأسطورية، ولأنّنا نريد، أيضاً، المحافظة على الطريقة العامية المحكية فيها، بوصفها شكلاً من أشكال التفخيم اللفظي في اللهجة الشامية، حيث تُقلب السين صاداً".
لأكثر من ثمانية عشر عاماً قدّمت شلبية الكثير من العروض والمشاريع. وبالتالي، ليست السيرة هي أُولى اشتغالاتها، لكنّها، كما تقول لـ"العربي الجديد"، أشبهُ بقمّة "إيفريست"، وهي ذروة ما تريد أن تقوله في مهنتها وتصوُّرها عنها: "أنا أتسلّق السيرة وأقرأ فيها منذ سبع سنوات بلا انقطاع، وقد انغمست في هذا المشروع كلّياً ولا أزال أحيا به، وعلى الأغلب أنه سيُتابع معي خمس سنوات أُخرى، وربّما أكثر، إلى الحدّ الذي يكتمل فيه السرد بشكلٍ كامل ومُعاصر".
قيمة فنّ الحكي أنّه يجذّرنا في ثقافتنا وهويتنا العربية
تُضيف: "نحن أمام نص سردي عبقري، وجزءٌ من عمَلي يقوم على تفكيك القصص والأحداث والكلام، وإعادة بنائه، حتى أستطيع أخذ قصّة متكاملة ومحدّدة بعينها، من بحر لا نهاية له، وفي الوقت نفسه ألّا أقتطع النسق والسرد الكلّي، أي قصّة كاملة من سياق غير مكتمل، كمسلسل تلفزيوني على سبيل المثال. لذا فأنا أتطلّع إلى الخروج من السيرة كما هي بروايتها الشامية، إلى نسخة أُخرى، لنسمِّها 'نسخة شلبية'، من منظاري الذي 'يعصرن' النصّ ويقلّص الذكورة السامّة وأدوارها 'البطولية'، ولا تُهمَّش فيها الشخصيات النسائية، بل تُعطى مساحة في السرد. ولكنّ هذا لا يعني الإخلال بالسرد أو الشخصيات أو التراكيب، لأنّ هذه السيرة جرى حبكُها عبر مئات السنين ومن قبل حكواتيّين ماهرين تداولوها ونسجوها لتصبح التحفة الحكائية التي وصلتنا. فالخطّ السردي فيه أحداث وشخصيات تعود من جديد بين الجزء الأوّل والعاشر والأخير؛ لذا فأنت لا تستطيع أن تحذف أو تعدّل على هذه الحبكة تِبعاً لرغباتك فحسب".
وحول تفصيل ما يجب أن يفعله حكواتي السيرة، تقول: "هو أن يترك للمستمِع بُذوراً هنا وهناك، فيزرع تارةً ويحصد تارةً أُخرى، وبالتالي العمل هو كيف تبني على النص، وهذا أمر مُنهِك، ومن هُنا استعارةُ 'إيفريست'. وما من شكّ بأنّي وقعت في غرام هذه القصّة، ووفائي لها يتمثّل في بنائي إياها بطريقة مُعاصرة ومناسبة للجمهور. سابقاً كانت عندي رغبة لتقديم السيرة في عشرة عروض، أمّا اليوم فهذا الرقم مجرّد حلم، ولا يفيها حقّها مطلقاً، لنقُل ستّين عرضاً أو أكثر. لو أردنا أن نُعطي رقماً؛ فأنا اليوم في الموسم الرابع/ وقد سردت من السيرة 12 حكايةً فقط، وهذا الجزء الأوّل منها".
تشير صاحبة "زغاريد" (بحث فنّي صدر عام 2022)، إلى آخر حكّائي السيرة في بلاد الشام، وهو الراحل رشيد الحلّاق المعروف بـ"أبو شادي"، صاحب الحضور اللافت في "مقهى النوفرة" الدمشقي، لكن بعدما رحل عام 2014، لم يعد هناك حكواتيّ آخر يروي سيرة بيبرص كسرد متسلسل سوى سالي شلبي، وبذلك تكون أوّلَ امرأة عربية تحكي سيرة الظاهر بيبرص، بعد أن ظلّت لعصور حِكراً على الحكواتيّين الذكور.
ترى شلبية أنّ الجمهور في يومنا هذا لديه إسقاطاتُه الخاصّة والمعاصِرة، وليس دورها أن تتدخّل في ذلك. تقول لـ"العربي الجديد": "نعم هناك قصص تلامس الجمهور أكثر من أُخرى، مثل 'تحرير معروف'، وهذا كان له في السياق الفلسطيني والحديث عن الأسرى وقعٌ كبير"، كما تشير إلى جغرافيا السيرة التي تدور في بلاد الشام ومصر، حيث للمدن - مثل دمشق وحلب ومصر والإسكندرية والقدس وأنطاكية وغيرها من مدن المنطقة - حضورٌ خاصّ فيها، و"الناس بطبيعة الحال يتفاعلون مع أحداث السيرة كسقوط حلب وفتوحها وتحرير القدس وهكذا".
وتختم: "سُئلت مرّة ما الجدوى من فنّ الحكي؟ فأجبت: أهميتُه من أهمية التجذّر في هويتنا، فهو الذي يعرّفنا مَن نحن بالضبط. لولا الحكي ستموت هذه القصص مِن حولنا، فإن لم ترو قصتك، مَن سيرويها؟".
بطاقة
تبحث سالي شلبي في قصص بلاد الشام الشعبية، وتعمل في هذا المجال منذ عام 2005. إلى جانب اشتغالها على سيرة الملك الظاهر بيبرس منذ ستّ سنوات، لها عروضٌ حكواتية وإنتاجات صوتية، من بينها: "خير يا طير" (2017 - 2019)، الذي يروي قصة النكبة الفلسطينية، و"شلبيات" (2015 - 2019)، و"حياكة الكلام" (2020)، و"رحلة في الجنون" (2021)، و"كنّا وما زلنا" (2021).