شقيقةُ إسماعيل كاداريه المغيَّبة: عارضت ديكتاتور ألبانيا وتنبّأت بمستقبل البلاد

13 مايو 2024
من منزل إسماعيل كاداريه الذي تحوّل إلى متحف في مدينة جيروكاستر جنوب ألبانيا
+ الخط -
اظهر الملخص
- الصحافة الألبانية تسلط الضوء على غياب إسماعيل كاداريه عن قائمة المرشحين لجائزة نوبل للأدب، مما يعكس تعقيدات علاقته بالنظام الشيوعي السابق والجدل حول موقفه من ديكتاتورية النظام.
- قصة قدرية كاداريه، شقيقة إسماعيل، تكشف عن التحديات والتضحيات في مواجهة النظام الشمولي، بما في ذلك اتهامها بالجنون من قبل شقيقها في محاولة لحمايتها.
- في 2023، تقرير سري من 1978 يُعاد نشره يكشف عن انتقادات قدرية الحادة للنظام ولشقيقها، مما يُعيد تقييم مكانتها كمعارضة للشمولية ويُبرز بصيرتها السياسية والاجتماعية.

لوحِظَ في الصحافة الألبانية، خلال الأيام التي سبقت إعلان اسم الفائز بـ"جائزة نوبل للأدب" في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أنّه، ولأوّل مرّة، لم يرد ضمن قوائم المُرشَّحين اسمُ المُرشَّح "المُزمِن" إسماعيل كاداريه (1936)، بعد أن توقّف عن الكتابة مؤخّراً. صحيحٌ أنّ الجميع يشيد بموهبة كاداريه وتنوُّع أعماله التي تتناول تاريخ ألبانيا وتُسقطه على الحاضر، إلّا أنه بقيت تُلاحقه مكانتُه في النظام الشيوعي الذي حكَم ألبانيا بين عامَي 1944 و1990 (كان نائب رئيس "الجبهة الديمقراطية"؛ الواجهة الشكلية للحزب الحاكم)، وعدم تعرُّضه لديكتاتورية النظام، في الوقت الذي كان غيره من الكُتّاب يتعرّضون للنفي والسجن والموت البطيء.

ولكنّ الأمر تجاوز السكوت عمّا يحدُث للآخرين، وشمل اتّهامه أخته المثقّفة قدريّة كاداريه (1935 - 2022) بالجُنون وتبرُّئه منها، لكونها تجرّأت وانتقدت النظام الشمولي في بلادها، ولم تستثن من ذلك زعيم الحزب أنور خوجا وأخاها المُجامِل له إسماعيل كاداريه.

وتعود هذه القضيّة/ الفضيحة إلى سبعينيات القرن الماضي، حين شنَّ النظام الشمولي في ألبانيا حملة تصفية ضدّ "الاتجاهات الليبرالية في الثقافة"، شملت سقوط رؤوس كبيرة، مثل الكاتب المسرحي ووزير الثقافة الأسبق فاضل باتشرامي (1922 - 2008)، الذي اتُّهم في 1973 بتبنّي "ميول ليبرالية"، وحُكِم عليه في 1975 بالسجن عشرين سنة، ولكنّ كاداريه بقي في موقعه بفضل علاقته الوثيقة برأس النظام أنور خوجا.

معارضتُها النظام الشمولي وضعتها في مواجهة مع شقيقها

وفي هذا السياق، كان كاداريه من الكُتّاب الموثوقين الذين يُسمح لهم بالسفر خارج البلاد، ولكنّه لاحظ في مطلع عام 1980 أنّ السُّلطات لم تُوافق على سفره إلى باريس للقاء المُخرج الذي كان يشتغل على تحويل روايته "جنرال الجيش الميّت" إلى فيلم سينمائي. ويبدو أنه ربط ذلك بما كانت تقوم به أخته قدريّة من انتقاد شرس للنظام، ولذلك رأى أن يكتب في نيسان/ إبريل 1980 رسالة لأنور خوجا يتبرّأ فيها من أخته. وقد بقيت هذه الرسالة المُشينة في ملفّات النظام السابق، إلى أن كُشفت ونُشرت في الصحافة الألبانية عام 2017، لتُحدث صدمة كبيرة في البلاد.

جاء في هذه الرسالة التي كتبها بخطّ يده عن أُخته بعد أن ذكَر منعه من السفر إلى باريس: "في السنة الماضية دعتني لجنةُ الحزب في تيرانا لكي يُخبروني أنّ أختي تُسيء الكلام في السياسة، وقد استُدعيَتْ للتحقيق معها حول ذلك. لقد اتّخذتُ فوراً موقفاً ضدّها، وقلتُ لسكرتير الحزب ج. جوني إنّ من المناسب أن يخوّفوها، كما سأقوم أنا بذلك. أقول هذا عن اقتناع لأنّ تصرُّفها أثارني، لأنّني أعرفُها جيّداً، إذ إنها لم تُوفَّق بعدم الزواج وتُعاني الإحباط ولا تُسيطِر على أعصابها، ولذلك يُمكن أن يصدر عنها أيّ شيء... ومع أنّها كذلك، فقد اتّخذتُ منها موقفاً صارماً، وأخبرت كلّ العائلة عمّا حدث ومنعتُها منذ ذلك اليوم أن تطأ عتبة بيتي".

الصورة
قدرية كاداريه
قدرية كاداريه

ومع الصدمة التي أثارها نَشْر الرسالة، حاول كاداريه تبريرها بكونه أراد من اتّهام أُخته بـ"الجنون" أن يحميها من انتقام النظام، إلّا أنّ شخصية قدريّة كاداريه بقيت مُغيَّبة بوصفها معارِضة شرسة للنظام الشمولي الذي استسلم بعد تصاعُد المُعارضة في 1990 بإعلانه القبول بالتعدّدية السياسية وخسر انتخابات 1992، وهي الفترة التي عادت فيها قدريّة كاداريه للعمل مُحرّرةً أدبيةً في الصحافة الديمقراطية الجديدة.

ولكنّ هذا الموضوع عاد بقوّة إلى الصحافة الألبانية، بعد أن نشرت جريدة "بانوراما" الأكثر انتشاراً في ألبانيا، في الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تقريراً سرّياً من ملفّات أجهزة الأمن من ستّ صفحات يعود تاريخه إلى العاشر من نيسان/ إبريل 1978، يُفصِح للمرّة الأُولى عن الأفكار النقدية لقدريّة كاداريه ضدّ النظام الشمولي، التي كانت تجد من ينقلها إلى الجهات المعنيّة. وبالمقارنة بصدمة 2017، كانت الصدمة هذه المرّة أكبر، لأنّها أفصحت عن جُرأة قدريّة كاداريه في نقدها لرأس النظام أنور خوجا وحتى لأخيها المُمالئ له.


آراء حادّة

ينطلق التقرير أوّلاً من معلومة لها مغزاها، تقول إنّ قدريّة تنتمي إلى عائلة "من صغار الموظّفين" لم يكُن لها موقف مُعارض من حُكم الملك أحمد زوغو في ألبانيا (1928 - 1939)، ولا من الاحتلال الإيطالي للبلاد (1939 - 1943)، بينما لم ينضمّ سوى خالها وخالتها إلى قوّات الحزب الشيوعي (البارتيزان) التي أوصلت الحزب إلى السلطة في نهاية 1944.

ويكشف التقرير أنّ أجهزة الأمن كانت تُصنّفها في البداية "عميلةً سوفييتية"، في الوقت الذي كانت هذه التُّهمة تُودي بصاحبها إلى أسوأ مصير بحُكم تردّي العلاقات بين ألبانيا والاتحاد السوفييتي، بينما تحوَّل تصنيفُها في 1977 إلى مُتّهمة بنشر "الدعاية المُعادية" للحزب.

وفي هذا السياق، يُصنّف التقرير قدريّة كاداريه باعتبارها مُثقّفة تُتابع ما يُكتب في الغرب من "أدب مُنحطّ"، وتذكر قراءتها لكتاب ابنة ستالين عن والدها وتصفه بكونه "دكتاتوراً وقاتلاً"، في الوقت الذي كانت ألبانيا الدولة الوحيدة التي تُمجّده وتحتفظ بتماثيله في كلّ مدينة، كما كانت تشيد بمكانة المرأة في البلدان الغربية وتتحدّث عن الموسيقى والأدب والفنّ هناك، بينما ترى أنّه "لا يُوجد في ألبانيا أدبٌ حقيقيّ، بل أدب كاذب".

وفي فقرة أُخرى، ينقل التقرير كلاماً جريئاً لقدريّة كاداريه يمسُّ رأس النظام وكذلك أخاها إسماعيل كاداريه: "إنّ دولتنا تصرف العملة الصعبة على ترجمة وطبع مؤلّفات الزعيم الرئيس (أنور خوجا) ومؤلّفات أخي في الخارج. ومن يهتمّ في العالَم بمؤلّفات الزعيم وروايات أخي. لقد قلتُ: إنّ مؤلّفات الزعيم لا تستحقّ أن يُستخدم ورقُها في التواليت".


نبوءتان مبكّرتان

مع إنفاق العملة الصعبة التي كانت شحيحة في البلاد على ترجمة هذه المؤلّفات ونَشْرها في عدّة لُغات، تنفجر قدريّة كاداريه في وصف حالة الفاقة التي وصلت إليها حياة الناس في ألبانيا، حيث تقول: "لقد أُفقرت حياتنا إلى حدّ أنّ أيّ إنسان لن يهتمّ إذا ما اعتُقل ابنُه، لأنّه في السجن سيجد خبزاً يأكلُه ومكاناً ينام فيه، وهذا ما لا يتوفّر للآخرين خارج السجن".

تنبّأت ببقاء شقيقها بعد تغيُّر النظام لأنّه "ماهرٌ بما فيه الكفاية"

ومع ذلك، لدينا في هذا التقرير نبوءتان جريئتان تحقّقتا بعد سنوات، تتعلّق الأُولى بالنظام والثانية بالشقيق. ففي ما يتعلّق بالأنظمة الشمولية المُغلقَة، رأت كاداريه أنّ الأمل في التغيير أصبح يرتبط بموت الزعيم الذي لا مفرّ منه، فقد قالت: "مات ستالين وتغيّر النظام، ومات ماو تسي تونغ وتغيّر النظام، وأنا يُراودني الفضول لأعرف ماذا سيحدث عندنا بعد أن يموت الزعيم".

أمّا عن النبوءة الأُخرى المتعلّقة بشقيقها إسماعيل كاداريه، فتقول: "إنّ أخي ذكيّ جدّاً، حتى إنه في روايته 'شتاء الوحدة الكبرى'، نسَب كلّ شيء إلى زعيم الحزب الذي يعرف نقطة الضعف فيه، ولكنّ أخي بعد تغيُّر النظام سيبقى، لأنّه ماهر بما فيه الكفاية".

وبالفعل، فقد انتُقد كاداريه على كونه، في هذه الرواية التي تدور حول اجتماع الأحزاب الشيوعية في موسكو خلال شتاء 1960 - 1961، بالغ في تمجيد مشاركة أنور خوجا في هذا الاجتماع الذي تمخّض عن خلافات أيديولوجية، ولذلك أعاد نشرها بعد تعديلات في 1977 نتيجة لما تلقّاه من انتقادات، وتُرجمت بعدها بدعم من النظام إلى الفرنسية والسويدية والألمانية والإسبانية بين عامَي 1978 و1991، بينما حاول أن ينأى بنفسه عن النظام الشمولي بعد سُقوطه بتفسير جديد لرواياته التي حرص الحُكم الشمولي على ترجمتها ونشرها في العالَم.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون