لم يحظَ العديد من الشعر في التراث العربي بدراسات تُضيء على السياقات الاجتماعية والسياسية التي وُلد خلالها، والتي يسعى كتاب "شعر يحيى بن نوفل" ــ الذي صدرت حديثاً نسخة محقّقة منه عن "معهد المخطوطات العربية" ــ إلى إضاءته من خلال ربط قصائده بالأحداث والمناسبات التي قيلت فيها.
الكتاب من جمع ودراسة الباحث إبراهيم بن سعد الحقيل، الذي يقول في مقّدمته إن الشاعر الأموي الذي عاش في القرن الثامن الميلادي، قدّم في قصائده التي نزعت نحو الهجاء بشكّل أساسي "صرخةً أليمة من رحِم الشعب الذي أضرّ به جور الولاة، وتفشّي الفساد، الذي لم يقتصر على الولاة وأعيانهم، وإنما شمل القضاة وغيرهم، فكان لسان حال الناس"، حيث عبّر عن آلامهم وغضبهم "ممّا لحقهم من جور وضنك وظلم".
يغلب الهجاء على قصائده التي تحدّث فيها عن جور الولاة وتفشّي الفساد
ويوضّح المؤلّف أنه جمَع 196 بيتاً من شعره، جاءت في خمس وأربعين قصيدة، وقدّم لها مع الإشارة إلى الأبيات التي صحّت نسبتها إليه، وتلك الأبيات التي نُسبت إليه وإلى غيره، مع العودة إلى المصادر التاريخية التي توثّق تلك الأشعار، ومنها مؤلّفات الجاحظ وابن قتية والمبرد والبلاذري وغيرهم.
تتضارب الروايات حول نسب يحيى بن نوفل ونشأته لكن معظمها يتوافق، بحسب الكتاب، على أنه نشأ في الكوفة وعاش فيها شاباً، وأنه وقف على هجاء الولاة وعمّالهم في العراق. وتتفاوت الآراء أيضاً في أسباب معارضته لجميع حكّام العراق في زمنه، حيث يرّدها ابن قتيبة إلى شعوره بالحسد، لكنّ المؤكّد أن هجاءه تسبّب بإيقاع أشد العقوبات به، حيث تعرّض إلى الجلد ورحل عن العراق فترة ليست بالقصيرة قبل أن يعود إليه.
ويرى بعض المؤرّخين أن بن نوفل حاول التقرّب من أولي الأمر لكنّ إحساسه بالذلّ لوقوفه الطويل على أبوابهم جعله ينقم عليهم، وجعله يقول الهجاء بحقّهم، وهو هجاءٌ حفظه الناس وتنقّل على ألسنتهم لأنه تماهى مع رفضهم القسوة التي تميّز بها ولاة العراق وإغراقهم بالضرائب، كما ورد في الكتاب.
يلفت الحقيل إلى أن المصادر تقول بموت يحيى أو قتله في خضمّ الفوضى التي حدثت في العراق، والمعارك التي جرت فيه وكانت نهايتها بظهور العباسيين، واستيلائهم على الخلافة، خاصةً أن خصومه كثر، فكان قتله سهلاً، وكان ذلك مع بلوغه سنّ السبعين.
كما يبيّن أنه كان شاعراً مطبوعاً، وهو الوصف الذي أطلقه النقّاد القدامى على الشاعر غزير الشعر، وهي ميزة لكن كانت القصيدة تسري على لسانه بعفوبة ودون تكّلف، لكن كثيراً من شعره تعرّض إلى الحرق ولم يصل منه إلا القليل، ومنه قوله في العريان بن الهيثم: "زعمت أنك عدل في إمارتكم/ وأنت أسرق من ذئب السراجين"، وكذلك في نقده للتصاهر والنسب بين الولاة الذي يحتكرون الحكم بينهم، حيث ينشد: "بنات أبي ليلى عهودٌ معدّة/ فدونك فانكح بعضهنّ وخذ عهدا".
يشرح الحقيل جميع الأبيات التي حقّقها، ومعاني ما ورد فيها من كلمات غامضة أو غير مفهومة، والروايات التي تحدّثت عن المناسبات التي قال بن نوفل فيها هذه الأبيات، وطبيعة علاقته مع الولاة الذين هجاهم، وأسباب هجائه التي تتعلّق بجورهم وفسادهم.