ترى شارلوت بانك أنّ الوجوه التي رسمها الفنان السوري مروان قصّاب باشي (1934 – 2016) تعبّر عن شخصيات معزولة ومحاصرة في وجودها المتشظّي، وهي تكافح من أجل تحرّرها وامتلاك حياة كاملة، وتعكس في غموضها جانباً من عذاباتها التي تعيشها في واقع مضطرب.
في اللقاء الافتراضي الذي نظّمه "متحف: المتحف العربي للفن الحديث" في الدوحة مساء الأحد الماضي، ركّزت القيّمة ومؤرّخة الفن على تجربة قصّاب باشي من خلال استعراض سيرته الذاتية، وتأثير المكان على تجربته، وهو الذي وجد دمشق في برلين، موزّعاً قلبه بينهما ومحقّقاً حضوره في الثانية بفائض الحنين والشوق إلى الأولى.
بين التشخيص والتصوير رحلةُ تجريب طويلة؛ توقّفت بانك عند عددٍ من أهمّ محطّاتها بدأت بعلاقة قصّاب باشي مع الفنان السوري أدهم إسماعيل (1922 – 1963) وشقيقه نعيم إسماعيل (1930 – 1979)، حيث تأثّر بالشقيق الأصغر، لكنّه افترق عنهما مقترباً من المدرستَيْن الجديدتين في أوروبا، التعبيرية والانطباعية. وأشارت بانك إلى المعرض الذي جمَع ثلاثتهم في بيروت عام 1957، والذي لا يزال يتطلّب مزيداً من البحث حوله من أجل إضاءة تلك المرحلة من حياة قصّاب باشي.
حقّق حضوره في برلين بفائض الحنين والشوق إلى دمشق
الفنان الذي حلم بالدراسة في باريس، وصل إلى برلين التي التحق فيها بـ"الكلّيّة العُليا للفنون"، حيث جذبته المدينة التي كانت لا تزال تعيش تداعيات الحرب العالمية الثانية، وشهدت صعوداً للتيّارات اللاشكلية لدى العديد من الفنانين الألمان، ومنهم أستاذه هان ترير، الذي شجّعه على إيجاد لغة فنّية خاصّة به، لكنّه سرعان ما اكتشف محدوديةَ ما يمكن بلوغه في التجريد، فانفتح على مناخات متنوّعة من التجريب والابتكار، بحسب المُحاضِرة.
وتلفت إلى أن قصّاب باشي مضى في بحثه الفني مطلع ستينيات القرن الماضي وسط شعوره بالوحدة والقلق تجاه ما يجري في العالم العربي من أحداث واضطرابات، فحضرت العديد من الشخصيات السياسية والثقافية في أعماله، مثل بدر شاكر السيّاب ومنيف الرزّاز، كما يصوّر في بعضها الفدائيين الفلسطينيين، قبل أن ينتقل لاحقاً إلى لغة تعبيرية أكثر جرأة وتصويراً لارتباطه بالمنطقة العربية.
وتوضّح بانك أنه تبّنى مقاربة تخصّه، تمزج بين التعبيرية والتجريد، وتبرز فيها أشكال غريبة اهتمّ فيها بالوجوه والرؤوس التي قام بتكبير ملامحها وعرض تجاعيدها ونتوءاتها لتبدو كأنها صورة لصخور، وجزءاً من مشهد طبيعي، يربط فيها بين العالمين الإنساني وغير الإنساني، مستشهدةً بتنظيرات أدونيس حولها، حيث قال مرّةً: "لا يرسم مروان صفات الوجه، وإنما يبتكرها فيما يبتكره. فهو لا 'ينسخ' الوجه، وإنما يُشكّله، ولنقُلْ على سبيل المفارقة: إن مروان 'يُكرّر' الوجه على نحو لا يمكن تكراره".
تبّنى مقاربة تخصّه تمزج التعبيرية والتجريد في رسم رؤوسه
كما تشير إلى أن بقعاً كثيرة من الألوان الداكنة ظهرت في مرحلة نضوجه للتعبير عن ذكرياته ودواخله العميقة، مستعيداً صورة الليل في سورية حين كان يذهب في رحلات الصيد كما يصوّرها في عدد من لوحاته. وفي نهاية التسعينيات أعاد العمل على الدمى (عرائس الماريونيت) التي رسمها بألوان تُرابية، ولا تبتعد في دلالاتها عن تعاظم حالة فقدان الأمل والمخاوف التي كانت تسيطر عليه.
وتضيف بانك أن أعماله تحوي ركاماً من اللحم البشري والأشكال المخيفة أو المشوّهة، أو تحيا أجواء من الرعب، في إبرازٍ للرثاء والأسى حيال ما يعيشه المواطن العربي ضمن محاولة لمقاومته، كما تعبّر في الوقت عن نفسه عن غربته وشعوره بالحنين، من خلال استخدامه مجموعة متنوّعة من الوسائط، كالزيت والألوان المائية والرسم والمطبوعات، يجمع بين موضوعاتها قاسمٌ مشترك هو هشاشة الوجود البشري وصلابته، في طبقات من اللون تتراكم فوق بعضها بعضاً، وتحيل إلى براعته في توزيع الضوء والعتمة على وجوهه لمحاكاة ثنائية الضعف والقوة.
كما تناولت المُحاضِرة إصرار قصّاب باشي على العمل بحُرّية ورغبته في الحفاظ على استقلاليته، وإيمانه بضرورة دعم الفنانين العرب الشباب، الذين تفاعل معهم في مشروع "المدرسة الصيفية" بعمّان، من خلال الحوار المفتوح معهم وحثّهم على البحث الفني الأصيل، حيث لا يزال إرثه حاضراً في تجارب لفنانين مثل تمّام عزام، وأيمن ومحمد سعيد بعلبكي، وتأثيره أيضاً على فنانين اختاروا أساليب ورؤى مختلفة عن معلّمهم، مثل رنا بشارة.
وختمت بانك بالتأكيد على أن الرؤوس والوجوه لازمت مروان قصّاب باشي حتى رحيله، وإن لم يكن قادراً على الذهاب إلى مرسمه في آخر أيامه، الأمر الذي أشعره بالاكتئاب؛ لكنه حين كان يتمكّن من العمل في تلك اللحظات، كان يواصل بحثه في الموضوع ذاته ويرسم ذكرياته التي لم تغادر لوحته.