شادي لويس و"جائزة ساويرس": مونتير المزاج الساخر

10 يناير 2023
شادي لويس
+ الخط -

أضاف الروائي المصري شادي لويس مِزاجاً ساخراً، نادراً ما يتكرّر في سِجِلّ رافضي الجوائز الأدبية، التي تمنحها مؤسّسات لطالما اتُّهمت بالفساد وتدجين الأفكار لِصالح المنظومة السياسية الحاكمة. فقد امتنع لويس عن قبول "جائزة ساويرس الثقافية" التي مُنحت أوّل من أمس الأحد، في دورتها الثامنة عشرة، لروايته "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة" (2021) ضمن فئة "كِبار الأدباء" (تبلغ قيمتها 150 ألف جنيه؛ حوالي 5400 دولار).

وإذ يُتوقع من صاحب الموقف الرافض أن يكون بالغ الجدية، مستعدّاً لتفجير قنبلة تعبيرية في وجه منظومة يناصبها العداء أو الخصومة في حدٍّ أدنى، فإن لويس أعادنا إلى قصّة أوّل رافضي "جائزة نوبل" عام 1925، ألا وهو الأيرلندي جورج برنارد شو، الذي تهكّم قائلاً إنه يغفر لنوبل اختراع الديناميت ولا يغفر له "جائزة نوبل".

ليلة واحدة
لكَم سيسعده أنّ ثمّة مَن يقرن اسمه باسم كاتب كبير وافق في العام الموالي 1926 على قبول "نوبل" بشرط عدم قبض قيمتها المالية، لكنّ شادي لويس (1978) عدّل النص فقبِل الجائزة لليلة واحدة، وفي الصباح تنازل عنها مادّياً ومعنوياً.

هذه "السعادة" هي التي أعرب عنها سابقاً حين هاجم بضراوة جوائز المؤسّسات العربية، وفي الوقت ذاته أعلن عن استعداده لقبول ترشّحه لأي جائزة، حتى يتسنّى له رفضُها.

لو كان جادّاً في لعبته لَما أحدث هذه البلبلة الضاحكة

وأشدّ ما كاله من نقد تجاه الملياردير نجيب ساويرس، الذي قال مطلع العام الماضي إن الفضل في إطلاق جوائزه الثقافية يعود لوالدته التي كانت تصطحبه إلى حي الزبّالين، وتوصيه خيراً بالفقراء؛ كما لم يوفّر الكاتب جوائز أخرى على غرار "بوكر" و"الشيخ زايد".

سيرة الجوائز
قال في منشور على صفحته في فيسبوك: "يعني الواحد يبقى عايز إيه غير أن اسمه يتحط جنب اسم هابرماس أو يتقارن بصنع الله إبراهيم مثلاً، كل ما تتجاب سيرة الجوائز".

يُشير هنا إلى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الذي رفض "جائزة الشيخ زايد"، في فرع "شخصية العام الثقافية" لعام 2021، البالغة ربع مليون يورو، وإلى الروائي المصري صنع الله إبراهيم، الذي رفض عام 2003 جائزة "ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي" وقيمتها مئة ألف جنيه، والتي يمنحها "المجلس الأعلى للثقافة".

هذان الاثنان كان لهما موقفان أعلناهما بعد إشعارهما بالفوز. حدث ذلك سابقاً لأسباب مختلفة مع الفرنسي سارتر الكاره للأوسمة والمؤسّسات، معلناً رفضه جائزة "نوبل" عام 1964، والروسي باسترناك الذي رفضها خوفاً من النظام السوفييتي. وكان موقف صنع الله إبراهيم الأكثر تميزا بين الكتّاب، حين اعتلى خشبة المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية، وأعلن صادماً الجميع رفضه الجائزة، إذ "في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا تجتاح القوّات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وتقتل النساء الحوامل والأطفال وتشرد الآلاف وتنفذ بدقة منهجية واضحة إبادة الشعب الفلسطيني (...) لكنّ العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان"، وفي بلاده حيث "لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم، لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب". هذا ما قاله.

تدبير موقف
دبّر الكاتب موقفه حين عرف بفوزه قبل بضعة أيام، وإذا ما صحّت الرواية، فإن جابر عصفور طلب منه الاسم الثلاثي حتى يصرف الشيك، فأبلغه بأنه صنع الله إبراهيم الأورفلي، مشدّداً على عدم نسيان الواو في الأورفلي، حتى لا يقع التباس عند موظف البنك.

لقد أعلن موقفاً ما زال يثير الزوابع حتى يوم الناس. لحقه عام 2009 الإسباني خوان غويتسولو الغارق في محبّة مراكش المغربية والمدفون بجوار جان جينيه في مدينة العرائش، حين رفض "جائزة القذّافي" (200 ألف دولار) قائلاً: "لا يمكن أن أتسلّم جائزة تحمل اسم ديكتاتور".

حِبال الغسيل
النيّة لدى غالبية الرافضين، قد يَعرف بها بضعة أشخاص من الأصدقاء الخلّص أو أفراد العائلة، بيد أن شادي لويس كانت لديه نيّة مسبقة منشورة على حبال الغسيل في صفحته الفيسبوكية التي يتابعها عشرات الآلاف، وفي حوارات مع مواقع إعلامية. هو ذاته مَن يقول: "ليست لدي طموحات مهنية بخصوص الأدب، وتستهويني إثارة الجدل والقلاقل والزوابع الصغيرة بروح ساخرة في معظم الوقت، ولا أمانع أن يرشّح الناشر إحدى رواياتي لجائزة بعينها، أهاجمها طوال الوقت، بدافع الفضول".

إنه يوافق على الترشّح لجوائز أدبية لم يكن يتردّد في التعريض بها مباشرة وبمموّليها، يوافق وهو مَن يصرّح بأن لديه موقفاً أخلاقياً منها؛ موقف "مؤسّس على حقيقة أن على كل واحد منا، كفرد أولاً، ومواطن ثانياً، وعضو في جماعة اجتماعية أو مهنية، أن يكون مسؤولاً أخلاقياً".

استثمار فرصة
كلّ مَن رفضوا بكلمات قاطعة، أو اختاروا على طريقة لويس كلمات مهذّبة يستعمل فيها "التنازل" بدل "الرفض"، استثمروا المناسبة فرصةً لإعلان موقف سياسي أو ثقافي أو شخصي. لا يمكن لعاقل أن يبلغ القيّمين على جائزة بأنه إذا فاز سيجرّسهم، كما لا يمكن لمؤسّسة أن توافق على فضيحة بجلاجل.

اختار كلمات مهذّبة استعمل فيها "التنازل" بدل "الرفض"

ولو اشتمّت رائحة غريبة سيجري استبعاد الكاتب لمجرّد أن لمِح إلى نيّته. المؤسّسات ترتعد فرائصها من فكرة وجود ذئاب منفردة، وهذا ما كانه صنع الله إبراهيم، ذئباً عصف بـ"حظيرة الثقافة" الداجنة التي قال وزيرها، فاروق حسني، إنه أدخل المثقّفين فيها.

كسر التوقّع
لم يكن شادي لويس شخصاً غير عاقل، بل المسألة ببساطة هي اختلاف التكنيك السردي. هو يهاجم رأس المال الوحشي (يجب تسميته رأس المال البشري) والفساد الذي يطاول مؤسّسات الجوائز، من نفوذ وزبائنية، وكلا الطرفين، المؤسّسة والفرد، يستعملان تكنيكاً سردياً يسمّى "كسر التوقّع".

أنت تتوقع أن يرفضوك، وها هم لا يفعلون ذلك، ويتوقّعون بدورهم أن تقبل، وها أنت تمسك بالجائزة ثم تردّها.

لعبة علنية
هذه اللعبة العلنية لا تستوي دون هذا المزاج الذي جعل المتابعين على مواقع التواصل يستعيدون بسهولة مواقف ساخطة للكاتب ويعيدون نشرها، حتى يبدو إعلان بيات الجائزة ليلة واحدة فقط ثم إرجاعها والتنازل عن أي حقوق مادية ومعنوية مبرّراً فنياً. شادي لويس ليس ذئباً منفرداً، إنما مونتير جيد، لديه رغبة أن تحالفه الصدفة، بينما خيال المؤسّسة فقير.

بعد تعليق من عضو مجلس إدارة الجائزة، محمد أبو الغار، على بيان شادي لويس بالقول: "امسح البوست فوراً وسوف نتحدّث تلفونياً"، لم يمسحه بل عدّله، وهذا، وفق تقديرات كثيرين، جعله يحذف العبارة الأخيرة التي تطالب بـ"شطب اسمي من قوائم الفائزين". لو كان الكاتب جادّاً (في لعبته، أقصد، وليس في الموقف)، لَما أحدث هذه البلبلة الضاحكة. إنه بالضبط، كما يقول كِتاب "لِعقلانية ساخرة" لعبد السلام بن عبد العالي: "يحتال بشتّى الطرق كي يوقع العقول الجدّية في ارتباك وينزع عنها وقارها، ويفقدها ثقتها بنفسها ويخرجها عن الصواب".

المساهمون