على شاهد قبر السلطان غياث الدين بن علاء الدين في ولاية آتشيه بسلطنة بروناي، تُنقش أبيات شعر باللغة العربية، في تقليد اتبعه العديد من السلاطين والولاة والعلماء والتجار في أرخبيل الملايو (الذي يضمّ إندونيسيا وماليزيا وبروناي وسنغافورة والفيليبين) منذ انتشار الإسلام فيه خلال القرن الثاني عشر.
اختار السلطان ثلاثة أبيات كلّ واحد منها ينتمي إلى قصيدة مختلفة، وهي مرتّبة على النحو التالي: "أَلَا كُلُّ مَا خَلَا الله باطِلُ/ وكُلٌّ نعيمٍ، لا مَحالةَ، زائلُ/ سِوى جَنّةِ الفِردوسِ كانَ نعيمَها/ يدومُ، وإن الموتَ بلا شكّ نازِلُ/ لو كانت الدنيا تدومُ لأهلها/ لكانَ رسولُ الله فيها حيّاً وباقياً".
البيت الأول مقتبسٌ من قصيدة لبيد بن ربيعة التي أثنى عليها النبي محمد في قوله "أصدق كلمة قالها الشاعر أَلَا كُلُّ مَا خَلَا الله باطِلُ"، ويُختلف على البيت الثاني في نسبه إلى ربيعة من باب تعديل عجز البيت الذي يسبقه بسبب اعتراض الصحابي عثمان بن مظعون عليه قائلاً "كذبت؛ لأنّ نعيم الجنة لا يزول" ويشار أحياناً إلى أن شاعراً غيره من قام بتغييره، بينما يخالف البيت الثالث سابقيه في الوزن والقافية وهو مأخوذ من قصيدة ثانية تدعو إلى الإسلام.
تهيمن نزعة صوفية على محتويات كثير من الشعرّ والنثر المدوّنين على شواهد القبور في تلك البلدان
يحلّل الباحثان نور عبد الكريم ومصطفى الساحلي في دراستهما "آثار الشعر العربي في أرخبيل الملايو: شواهد القبور نموذجاً" تلك القصائد وعبارات الحكْمة التي تنتشر في العديد من المدافن في تلك الجغرافيا القصيّة، التي دخل معظم سكّانها في الإسلام عبر التبادلات التجارية والمصاهرة بينهم وبين العرب الذين أقاموا على سواحلها منذ مئات السنين، ووثّقها عدد من الرحّالة وفي مقدّمتهم ابن بطوطة.
استعارت اللغة الملايوية الحروف العربية لتكتب أبجديتها بالخطّ الجاوّي القديم، مع تغييرات طفيفة في بعض الحروف التي ترسم أصواتاً غير موجودة في لغة الضاد، لكن نظام قواعدها والكثير من مفرداتها جعلاها أقرب إلى العربية، وظهرت العديد من المخطوطات بها وظلّت سائدة حتى مجيء الاستعمار البريطاني إلى المنطقة في القرن التاسع عشر واستبدلها بالحرف اللاتيني.
مع الإسلام وتعاليمه وشعائره حفَظ الملاويون العديد من الحكايات الشعبية العربية وكذلك القصائد والمأثورات الشعبية التي لا يزالون يردّدونها عند زيارة القبور بعد إلقائهم السلام على الموتى بالعربية وقراءة الأدعية والتهليل، من دون أن يفهموا معانيها، بحسب عبد الكريم والساحلي، اللذين يشيران إلى استقراره كتقليد متوارث على مرّ السنين.
عدم فهم معاني تلك الأشعار والمقولات يفسّر أيضاً التباساً قديماً في نقشها على شواهد القبور حيث يوضّح الباحثان وقوع العديد منها في أخطاء عروضية ولغوية كما وقع في الأبيات المذكورة أعلاه، ويفسرّه الباحثان بأنها كتبت مما كان عالقاً في ذاكرتهم ولم تكن لديهم معرفة بعلم العروض.
تهيمن نزعة صوفية على محتويات كثير من الشعرّ والنثر المدوّنين على شواهد القبور في تلك البلدان، ما يعكسه تكرار عبارات الغوث والمدد والتوسّل وغيرها، بالنظر إلى قدّوم علماء المتصوفة وغالبيتهم من اليمن للإقامة في الأرخبيل، ومساهمتهم في تشكيل وعي أبنائه بالإسلام وثقافتهم حيث لا تزال مجالسهم موجودة إلى اليوم.
عشرات الشواهد التي تشكّل موضع دراسة للآثاريين في إندونيسيا وماليزيا وبروناي، وتحتضن بعض المتاحف هناك نماذج منها، مكتوب عليها مقتبسات من الشعر العربي أحدثها يعود إلى القرن التاسع عشر، كما توجد نماذج أخرى تبدو كأنها محاكاة كتبها المالاويون ولكنها لا تسقيم في الوزن والقافية وتحتاج إلى مزيد من الدرس لفهم الأثر العربي في تلك الجزر الذي لا يزال حاضراً في ثقافة الموت وطقوسه وإن بدا غير مفهومٍ لهم بعد أن تبدّل لسانهم!