سَكنُ الشاعر

28 سبتمبر 2023
من سلسلة "جبل سانت فيكتوار"/ بول سيزان
+ الخط -

كان القطار يمضي، والعصافير تتراءى عبر زجاج النافذة، وفي البعيد الأشجارُ والحقول الممتدّة في عزّ ظهيرة البروفانس الصفراء المُفعمة بأضواء فان غوخ. وهناك على جانبٍ، كوخٌ صغير بسطحه القرميدي الشديد الحمرة حوّل المشهد إلى لوحة للرسام الفرنسي إدوارد مانيه. عندما ركبتُ من محطة مدينة آكس الفرنسية، وجدتُ نفسي أمام شابٍ بدا لي فرنسيّاً.

كان يغفو واضعاً رأسه الحليق فوق المنضدة التي بيننا ويتقلّب كل لحظة فوق كرسيه مغيّراً وضعه باستمرار وقد غلبه النوم. يمدّ رجليه نحوي ويسحبهما ثم يرفع وجهاً خدّره النعاس وعينين نصف مغمضتين ليعتذر ثم يعود يغيّر وضع جلسته من جديد. قبل مدينة ليون بقليل، غفوتُ بدوري كما لو أني أصبتُ بعدوى النوم. وعندما فتحتُ عيني لم أجد الشاب. 

كانت هناك فقط حقيبة الظهر المنتفخة السوداء أمامي على المنضدة التي بيننا. لا أدري. حضرتني وأنا في شبه الإغفاءة معارك أبناء شوارع باريس الفقراء المحلوقي الرؤوس كما يظهرون في أفلام الخمسينات، وصورة ضبابية لغلاف رواية الفرنسي فرنسوا مورياك "Le Sagouin". شعرت بريبة من الحقيبة التي أمامي. قلت للكُمساري لدى مروره راح الشابُ وترك أغراضه. بعد لحظة ظهر الشاب أمامي، فقلتُ له اعتقدت أنّك نزلت في ليون فأعلمت الكُمساري.

ابتسمَ وشكرني وبدأ يتكلّم: كنت أتفرّج على مشاهد الريف. كانت لهجته كَندية أو هكذا بدت لي. سألته أنتَ كنديٌّ؟ قال كلّ الناس يطرحون هذا السؤال. أنا بلجيكي. سأنزل في مدينة ليل، بلدتي قريبة، وراء الحدود الفرنسية. لم أسأله. قالَ أنا موسيقيُّ، أعزف في فرقة كلاسيكية، أقمنا حفلاً في مرسيليا، وهناك افترقتُ عن أعضاء الفرقة. هم عادوا مباشرةً، وأنا ذهبت أقضي يومين في مدينة آكس آن بروفانس. 

ما إن يتكلّم الإنسان حتّى يتحوّل من صورة إلى كينونة

بدأت صورة الشاب تتغيّر في وعيي. هو سحرُ الكلمات. ما أن يتكلّم الإنسان حتّى تتغيّر هويته، يتحوّل من صورة إلى كينونة، من شيء تراه إلى كائن قد تنجذب أِو تصدّ عنه. عبرَ القطارُ باريس ولم أنتبه. كان القطار يوغل في الشمال الفرنسي. عادت إليَّ صورة الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس في صالون بيته يغمرُ وجهه عمود الضياء الذي يسقط على مربعات جليز الأرضية الإيطالية، مُبرزاً أشكالها الهندسية الرومانية الملوّنة. وأنا أصغي إليه يقول بلهجة فيها رهبة: باخ هو أكبر موسيقيٍّ على الإطلاق في كلّ العصور.

سألت الشاب: هل تحبُّ موسيقى باخ؟ قال أجل، ولكنّي أحبُ الاستعادة الحديثة لباخ. ذكرتُ له أغنية فيروز "يا أنا يا أنا أناوياك"؛ وهي استعادة لسوناتا موزارت الأربعين. سجّل في ورقة اسم فيروز وعنوان الأغنية. سألت: لماذا هذا الإجماع على باخ؟ عدتُ إلى تأمّلاتي. بدا لي باخ المُعادل الموسيقي لشكسبير وكذلك لثربانتيس. هنا فنانون هم نقيض مبدعي عصرنا. 

باخ، شكسبير، وثربانتيس كتّابٌ اختزلوا وعبّروا عن عصور بأكملها. وضعوا أعمالاً وكُتباً عاش عليها الناس قروناً. كتبٌ صاغت وعي الناس أحقاباً بأكملها، نقيض كتّاب "البيستسيلر" اليوم، الذين يتكئون على الإيديولوجيا والميديا، ولا يعيش سوى أشهر إلى أن يأتي الموسم الجديد بعناوينه الجديدة. قال وهو يحرّك أصابعه في الهواء كما لوكان يعزف على آلةٍ لا مرئية: لأنّ جملة باخ الموسيقية شبيهة بـ"الكاليدوسكوب KALEIDOSCOPE" أو المشكال، لها تأثيرات ملوّنة ولانهائية.

كانت تأمّلاتي قد ذهبت بعيداً. ظللتُ أتأمّل اللانهائي في النهائي، المُطلق داخل المحدود. رأيتُ الأهرام تحتَ شمس الجنوب المشعّة العاتية، والإبل العربية بزينتها وخيوطها الصوفية الملوّنة وسط المجال الأصفر. آه للأصفر الأبدي. أجل في مصر قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، اكتشفوا اللانهائي داخل المتناهي. المصريون هم أوّل من عرّف الخط الرياضي: المساحة المحدودة بين ألف وباء قالوا تحتوي على لانهائية من النقاط. كذلك القصيدة بين الحرف الأول والحرف الأخير ثمّة اللانهائي، وهو سكنُ الشاعر. أصغي إلى الشاعر الإيطالي جزيب أنغرتي بصمتٍ يتلو قصيدته: "أستضيء باللانهائي".

* شاعر ومترجم تونسي مُقيم في أمستردام

موقف
التحديثات الحية
المساهمون