في ايركي، القرية البحرية التي تتّكئ على منحدر صخري وفي خلفيتها غابات الصنوبر، جلست مرّة أخرى أُصغي إلى الفنانة سيمون فتّال تعود بالذاكرة إلى دمشق الخمسينيات؛ تروي ــ في توارُدٍ حرّ ــ صوَر طفولتها وشبابها. ليالي رمضان دمشق؛ حدائق فِلَل بيروت الخمسينيات المشتعلة بزهور الجهنّمية؛ الحياة القاسية في مدرسة الراهبات... دمشق، تلك المدينة الأسطورية التي تتغلغل في أحلامها وتمتزج ــ بلا وعيها ــ كملمَح من هويتها، ها هي تستعيدها الآن ونحن في هذا المقهى الصغير في مركز القرية. في مكان بعيد آلاف الكيلومترات عن دمشق.
سيمون فتّال:
"أعود لذكرياتي في تلك السنوات البعيدة من آخر الأربعينيات وأوّل الخمسينيات. تتراءى أمامي صوَر دمشق، وتتتالى غائمةً كالحلم: دمشقُ هبوبِ نسائم المساء؛ رياح الصيف المفاجئة في الخامسة بعد الظهر، كما لو أن هبوباً يهجم فجأة من الصحراء؛ أصوات الباعة في الشوارع يندهون على الخضار وعلى الثمار الدمشقية، مثل الجوز المنزوع القشرة؛ الاستيقاظ بعد إغفاءة الظهيرة ــ التي كنّا نُجبر عليها ــ وأكل الجوز وشرب عصير الليمون البارد؛ التجوال في شارع أبو رمانة لدى هبوط الليل وتناول الصُبِّير (التين الشوكي). كان الباعة يضعون الصُّبّير في صناديق خشبية صغيرة مزيّنة بزهور اصطناعية وفوانيس تشتعل وقطع ثلج، يرتدون بأيديهم قفازات سوداء؛ يزيلون قشر التين الشوكي للمتجوّلين. لم تكن أمّي هي التي تصحبنا؛ كانت ترسلنا مع مريم، المربّية التي كانت تأكل الصبّير إلى أن تسقط مريضة.
دمشق هي صعودي إلى جبل قاسيون وتطلّعي إلى المدينة، إلى ذاك المشهد الذي كثيراً ما غنّاه الشعراء. دمشق المُحاطة على الدائر بالأشجار المثمرة. كانت الغوطة ما تزال قائمةً في ذلك الوقت. ولكن حتى في ذلك الوقت كان يصدمني وأنا أتجوّل في أنحاء الغوطة منظرُ المصانع. منها مصنع "الخُماسية" للنسيج، ويُسَمّى "الخماسية" لأن ملكيته تعود لخمس عائلات تشتغل مع أبي، وكذلك مصنع الإسمنت ــ فماذا نقول اليوم؟
دمشق هي نسائم الصباح، الحرارة الجافّة؛ أجل، ذاك المناخ الذي لا نجده في أيّ مكان آخر في العالم. دمشق هي الخروج لمُلاقاة الربيع في الغوطة. كان هذا طقساً يمارسه كلّ الدمشقيّين، إذ يغادرون بيوتهم لرؤية الزهور والأشجار المثمرة. وثمّة لحظات أخرى عشتُها في وحدتي.
كانت بيروت بالنسبة لي هي الزهور التي تلقاك في كلّ مكان
دمشق هي ليالي رمضان. أتذكّرُني طفلةً؛ كنت أظلّ في الشُّرفة أتأمّل صمت المدينة الشامل ساعةَ الإفطار، لدرجةٍ من الممكن معها سماع صوت ارتطام إبرة فوق الأرض. الناس في بيوتهم والشوارع مقفرة؛ كانت تلك إحدى اللحظات القوية والثرية في حياتي، لحظات العزلة الاختيارية والصمت الشامل الذي يلفّ المدينة ساعة الغروب: نقيض مدن الضجيج اليوم. لقد ظلّ الوصول إلى دمشق ساعة الغروب من اللحظات ذات السحر الغامض...
دمشقُ طقوس رمضان، إذ تذهب مريم لشراء الخبز من الفرن. أتذكّر الحلويات الرمضانية؛ شراء ملابس الأطفال الملوّنة الجديدة في الأيام التي تسبق العيد؛ القصص الدمشقية التي ترويها أم كامل في الراديو. "أم كامل" هي في الحقيقة رجلٌ يتكلّم بلهجة أهل دمشق القديمة، قبل أن تتريّف المدينة. "أم كامل" تروي تاريخ المدينة الاجتماعي، تروي نوادرها وأمثالها وتقاليدها. وإذا ما صدّقنا "أم كامل"، فثمّة أنواعٌ من الحلوى الدمشقية على أعداد ليالي رمضان؛ لكلّ ليلة حلواها المختلفة.
تملّكني في تلك الفترة الشغفُ بالسينما وبالكتب التي كنت أختارها حسب ميولي الشخصية وبدون أيّ تدخّل خارجي. كما تملّكني الشغف بالعزلة؛ كنت منفردة مع نفسي باستمرار، رغم وجود المربّيات والطبّاخة ووالديّ اللذين كانا يتركانني لحالي، هادئةً في غرفتي لساعات طويلة.
هكذا انسابت الحياة هادئةً في دمشق.
ثمّ، فجأةً، انتُزعت بوحشية من حياتي هذه وأُرسلت إلى مدرسة في بيروت. ووجدت نفسي في زنزانة باردة لا يحميها شيء من الخارج سوى ستارة بيضاء مهتزّة لا تمنع تسرّب البرد. وكان علينا، نحن التلاميذ، أن نقف في صفوف منتظمة ملتزمين الصمت كاملَ الوقت.
كنّا بعض الطلبة الداخليّين في هذه المدرسة. جُلُّنا قادمٌ من البلدان العربية: من سورية والأردن والعراق، وبعض البنات من طرابلس في لبنان. أمّا بقية الطلّاب، فقد كانوا خارجيّين، كان أغلبهم من بيروت، فكانوا بالتالي يتناولون الغداء في المدرسة، ولكنْ يعودون في المساء الى بيوتهم. لم تكن هناك تدفئة في المدرسة. كنّا نستحمّ مرّة واحدة في الأسبوع وفي بقية الأيام ننقل الماء الساخن في وعاء صغير للاغتسال في الغرفة.
كنّا نتحدّث الفرنسية بشكلٍ رئيسيّ. كان الطلّاب يسخرون من لكنتي الدمشقية. إضافة إلى كلّ ذلك العناء، كنت أشعر بالبرد كاملَ الوقت، ولم أعد أعرف أين أنا. لقد انتُزعت من منزلي وأصدقائي وطاولتي ونافذتي وشرفتي ومن الفيراندا. وإضافةً إلى كلّ هذا، لم نكن نتمتّع بنفس المعاملة التي يتمتّع بها التلاميذ الخارجيّون. في الواقع، كانت هناك صيغتان وقانونان عشوائيان لمعاملة التلامذة الداخليّين والآخرين. كانت القسوة والظلم اللذان ينظّمان حياتنا لا يُطاقان.
ذات يوم، وجدت نفسي مرّة أخرى في البيت، في سريري. فقد أصبت باليرقان، ولمّا دخلت في حالة إغماء، أرسلوا في طلب والدتي من دمشق. وهكذا، عندما أفقت، وجدت نفسي في سريري. قضيت شهرين في البيت. كان المرض طويلاً جدّاً. كانوا يُطعمونني الأشياء الجيّدة: مربّى المشمش في الصباح، وشريحة لحم مع سلطة شمندر في الظهيرة. حتى والدي الذي لم يكن أبداً يصعد إلى الطابق العُلْويّ، جاء لزيارتي في سريري. بعد شهرين أخبرتني والدتي أن الطبيب يعتقد على الأرجح أن هذا المرض ناتجٌ عن الحزن. وسألتني أمّي: هل تريدين العودة إلى المنزل ومغادرة المدرسة في بيروت؟ لسوء الحظ قلتُ لا. وهكذا رجعت إلى تلك المدرسة وذاك السجن. واصلتُ دراستي هناك حتى البكالوريا. الغريب أن هذا المرض ظلّ في ذاكرتي يجسّد صورة السعادة الكاملة. غريبٌ أمرُ الذاكرة كيف تحوّر الأشياء!
ذكرى أخرى ليست بعيدة عن هذه، وإن لم تكن مثيرةً للغاية، هي ذكرى تعرُّض السيّارة التي كانت تعيدنا إلى المدرسة في بيروت، بعد ظهر كلّ يوم أحد، إلى عاصفة ثلجية، ممّا اضطرّ السائق للتوقّف. لم يعد يستطيع التقدّم بالسيّارة، فقد سدّت الثلوج الطريق المؤدّية إلى ضهر البيدر. وهكذا عدنا على أعقابنا إلى دمشق. عدت إلى جنّتي. ومرّة أخرى، الذهاب مع أمي إلى بيت جدّي الذي كان يشغل غرفةً واحدة فقط في منزله الضخم؛ الغرفة التي يوجد فيها موقد الحطب. وعلى الموقد صنَع لي جدّي عرائس مسخّنة.
التطريز فن الدقة؛ كلّ طاقة العالم تمرّ من ثُقب الإبرة
ذكرى أخرى من الطفولة البعيدة: كنت في سنة شهادة التعليم الابتدائي؛ قالت لي أمّي: عندك امتحان في آخر السنة ويجب أن تتوقّفي عن المطالعة وتهتمّي بدروسك فقط. في تلك اللحظة شرعتُ في كتابة رواية. وكتبت في الصفحة الأولى من الكرّاس: بما أنّني ممنوعة من القراءة، سوف أكتب. وخبّأت كرّاسي في الفراش. لم يمرّ وقت طويل حتى اكتُشف الكرّاس، وحملوه إلى أمّي التي أسرعت بقراءته وحدّثت كلّ الناس عنه، وخاصّةً أختي الكبرى؛ كانت تُعيد الجمل التي كتبتُها لمن يريد أن يستمع إليها. وكانت أكبر صدمة في حياتي، أن تُستباح حميميّتي... صدمةٌ لم أستفق منها إلى الآن. ترسّخ لديّ خوف من أن يجد الناس كتاباتي وأن تُقرأ رغماً عنّي. لقد آلمني ذلك، وهكذا لم أكتب بعدها أبداً...
زرت بيروت كثيراً. لا أتذكّر بالضبط عدد المرّات ولا الأماكن التي أقمنا فيها. انطباعاتي القويّة عن بيروت هي مشهد الشوارع التي تنحدر مباشرةً إلى البحر. كنّا نرى البحر من كلّ نواحي وسط البلد. كان أكثر ما خلبني مشهد نباتات الجهنّمية المتسلّقة على واجهات البيوت. لم أرَ أبداً هذا القدر من الزهور المختلفة الألوان من حمراء وصفراء ووردية وخبّازية. كانت بيروت بالنسبة لي هي الزهور التي تلقاك في كلّ مكان.
كانت الراهبات يأخذن الرضُّع الأيتام، اللواتي يُلقى بهنّ على مدارج الكنيسة، وينشئنهن. وكانت لهؤلاء الأيتام ــ كما يُطلق عليهنّ ــ مكانةٌ خاصّة، إذ يتمّ تعليمهنّ الخياطة والتطريز... في أحد الأيام، استولت عليّ فكرة صعود الدرج. صعدت إلى الطابق الثالث، الذي كان محظوراً على التلاميذ، ووجدت نفسي عند باب غرفة يسودها الصمت الأعظم. كانت هذه الغرفة الكبيرة مغطّاة بأشعّة الشمس. وهناك بناتٌ ومعهنّ الراهبات معلّمات التطريز. ذاك الصمت المطلق، وضوء الشمس الذي يغمر القاعة، تركا لديّ انطباعاً قويّاً.
آه! لطالما أحببتُ التطريز. مارسته في البداية عندما كنت طفلة، إذ كان لديّ دائماً شُغْل تطريز إلزاميّ أثناء القيلولة، إذا لم أرغب في النوم. واستمرّ التطريز بعد ذلك في حياتي. لقد وصفتُ في مقابلة ــ أجريتها أخيراً ــ عظمة هذا الفن. إنه فن الدقّة بامتياز. كلّ طاقة العالم تمرّ من ثُقب الإبرة. كلّ ذاك التركيز، وكلّ ذاك التثبُّت، وكلّ ذاك البطء والتأنّي المفروضَيْن، لأنّنا لا نستطيع أن نُسرع أثناء التطريز كما هو الحال في النسج. كان هذان الفنّان شائعين تقريباً لدى جميع النساء؛ التطريز والنسيج من الفنون الرئيسية، لكننا نجدهما اليوم موضعَ استنكار وازدراء. نرى نتائج آلاف الساعات التي قضتها النساء منكبّات على العمل في الشكل النهائي لأشغالهنّ. الذي يُحدث تأثيراً هو مزيجٌ من خفّة وحُلم؛ يمضي النظر جائلاً لا يُمسكه أو يوقفه شيء، يمضي محمولاً باللون والرسم الخالص".