لا أحد يعرف بالضبط من أين أقلعت تلك السفينة قبل ألف عام، لكن انتشال حُطامها في مياه سيربون Cirebon، المدينة الواقعة في جزيرة جاوة الإندونيسية، عام 2003، منحها اسمها. ومن ثمّ بدأ علماء الآثار البحرية وخبراء المناخ والرياح الموسمية يدرسونها، مُؤكّدين أنّها أقلعت ممّا يُسمى اليوم "الشرق الأوسط"، وقد كانت في القرن العاشر الميلادي أراضي الحضارة الإسلامية في زمنها الذهبي.
على شاطئ كتارا في الدوحة، حيٌّ تُراثي بحري أقامه "مهرجان المحامل التقليدية" في دورته الثانية عشرة (من 19 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري إلى 18 كانون الأوّل/ ديسمبر المقبل) التي تواكب كأس العالم 2022. وهناك اختارت "متاحف قطر" معرضاً صغيراً ضمّ بعضاً من مقتنياتها التي أُخرجت من حطام السفينة، وتولّت صيانتها وترميم المهشَّم منها، بعد مكوثها كلّ هذه الحقب.
وحتى تكتمل حكايةُ السفينة الغارقة وهويتها، فقد اعتمدت قراءة مسارها على العِلم الحالي بتيّارات المُحيط، واتجاه الرياح الموسمية، فتوصّل علماء الآثار البحرية إلى استنتاج حاذقٍ؛ مفادُه أنّ "سيربون" أقلعت من الشرق الأوسط وعليها كنُوز صُنعت من الزجاج والفخّار واللؤلؤ لشحنها إلى أقصى نقطة في شرق آسيا.
تحمل السفينة اسمَ المدينة الإندونيسية التي اكتُشفت فيها
وبعد إقلاعها، مرّت السفينة بالهند، في الجنوب الشرقي منها، لجِمع القطع المعدنية والسيراميك والخرز. واعتماداً على الرصد الجوي لحركة الرياح، يرجّح أن محطّة التوقّف التالية هي أحد الموانئ الإندونيسية. تدلّ على ذلك البضائع المُكتشفة في السفينة، كقطع الذهب والبرونز والخرز الثمين، الذي من المُحتمَل أن يكون قد بِيع قبل أو عقب وصول السفينة إلى الشواطئ الصينية. ومن الصين، جرى جمع كمّ وفير من البضائع التي حُملت وكُدّست على متن "سيربون"، وكان الخزف الصيني من أخصّ البضائع أثَرة في المشرق والمغرب، وقد انعكس ذلك على الكمّيات الهائلة التي توافرت له.
وقبل بلوغ الوجهة الأخيرة في أفريقيا، رستِ السفينة في موانئ إندونيسيا لتعبئة وتفريغ البضائع، وما إن وصلت إلى ميناء مدغشقر في شرق أفريقيا، حتى شُحنت ببضائع من الأبنوس والبلّور الصخري، لتُكمل بذلك دورة التجارة البحرية التي امتدّت على الطريق البحري الطويل بين آسيا وأفريقيا. غير أنّه لم يكن في حسبان أحدٍ أنّ السفينة ستُلاقي مصيرها المؤسف بين أمواج البحر التي غمرتها وأغرقت معها ثلاثمئة طنّ من الثقافة والتقاليد الغنية. ولقد كشفت البضائع التي ملأت أنقاض سفينة "سيربون" عن مشغولات زجاجية شرق أوسطية وعاج أفريقي وأعمال معدنية شرق آسيوية، إضافة إلى الخزف الصيني الذي يشكّل 65 في المئة من مُكتشفات حطام السفينة.
ولا غرابة في ذلك، لأن الخزف بالنسبة إلى التجّار، سواء في منطقتنا أو المناطق المجاورة للصين، مادّة ساحرة خلّابة، وقد بز في قيمته الفخّار المُعالَج بالحرق؛ حيث أضحى ملوك وأمراء الأقطار يتهافتون عليه للدلالة على المكانة المرموقة، ولإثارة إعجاب المنافسين والرعية، كما استعمله عمداء القُرى في بورنيو (ثالث أكبر جزر العالم وتتقاسمها اليوم إندونيسيا وماليزيا وبروناي)، لحفظ الماء والخمر، بالإضافة لعظام أسلافهم. كما اكتُشفت كمّية من الذهب بين ركام سفينة "سيربون"، يُرجَّح أنّها تعود إلى سومطرة، إحدى جزر إندونيسيا، وقد وردت لتسُدّ احتياجات سوق جاوة، وغالباً ما بيعت قطع الذهب في شكلها الخام الطبيعي، ليجرى تحويلُها فيما بعد إلى حُليّ من قبل مجتمعات مختلفة. وكان البرونز معدناً طبيعياً آخر استُخدم في سومطرة لإنتاج موادّ ذات قيمة ثقافية ودينية، من بينها قطعة بخمسة أضلع تُستعمل في الطقوس الدينية، كانت سلعة دينية ثمينة في البلدان الجنوب شرق آسيوية.
تُعرض في حاويات زجاجية للمعرض رقائقُ ذهب، وأقراط ذهب ولآلئ، وكلُّها على الأرجح من جنوب شرق آسيا. يمكن للزائر الاطّلاع على عيّنة من العاج، وخرز سبحة من خشب الأبنوس من أفريقيا، وعملات لازوردية منقوشة من شمال أفريقيا، وجزء من جرّة خزف مزجّج فيروزي وقارورة زجاج من الشرق الأوسط.
والزجاجة المذكورة أخيراً ربما كانت قارورة عطر، رمّمها المتحف بين قطع زجاجية وخزفية وحجرية أُخرى، كما يظهر في فيديو سابق لخبير الترميم اليوناني إيانوس سبانوس وهو يتحدّث عن هذه القطعة ذات التجويف والعنق الطويل، وهذه مع غيرها من القطع تأخذ وقتاً طويلاً وعملاً دقيقاً لإرجاعها إلى هيئتها السابقة. كما لدينا عيّنة لازورد من أفغانستان، وياقوت أزرق وعقيق من الهند، وإبريق شاي من البورسلان الصيني، ووسادة خزفية من الصين، ومنها أيضاً مرآة من سبائك النحاس، وعملات رصاصية، وخرز لؤلؤ من الخليج العربي، وموقد خزف وخرز زجاج وقدر خزفي من جنوب شرق آسيا.
جاء مسار الرحلة بناءً على قراءات معاصرة، ومعها تحديد منشأ القطع، بعضها مؤكّد، وبعضها على الترجيح، ضمن خريطة تمثّل جزءاً هاماً ممّا عُرف باسم طريق الحرير البحري، ما دلّ على وجود شبكة تجارة آسيوية بحريّة مبكّرة ضاهت تجارة طريق الحرير البرّي.