منذ عصر النهضة الأوروبية، لم يَعُدِ الفنّ مسألة عرَضية بل أصبح عنصراً مكوِّناً لقوَّة الدولة ومناعتها وأصبحت المجموعات المتحفية من وسائل النُّفوذ. كما أصبحت رعاية الفنون (mécénat) مكوِّنة لوظائف المملكة ثمّ لوظائف الجمهورية. ولقد فرض لويس الرابع عشر، مثلاً، على كبار الأسياد والشخصيات الأرستقراطية تطوير مجموعات فنية عامَّة وخاصَّة، كما اعتنى بتنشيط سوق الفنون وجعلَها جزءاً من المُبادلات التجارية ورافداً للاقتصاد الملَكي. ثمّ أصبح البرلمانيون والمستشارون في الأنظمة الجمهورية للدُّول الجديدة من كبار مُجمِّعي الأعمال الفنية.
بل كانت رعاية الفنون هذه وتكوين المجموعات (collections) الفنّية، لدى الملوك والأمراء وداعمي الفنون من أثرياء التجّار، شكلاً لسيادة الدولة و"السّيطرة على العالم" من فرانسوا الأوّل إلى رودولف الثاني، حيث وقع الربط بين الفنّ وبين الحقّ السياسي. وهو ما لقي دعماً لدى مفكّري الحداثة في القرن الثامن عشر مثل فولتير "موسوعة فولتير الفلسفية"، بل وحتّى لدى كبار منظّري العقد الاجتماعي مثل جان جاك روسو في "رسالة إلى دالمبير". كما وقع الربط بين إشكاليّة النموّ الاقتصادي وبين سوق الفنّ وتكوين المجموعات.
وهكذا، مكّن التفكير السياسي والاقتصادي منذ عصر النهضة من إدراج "رعاية الفنون" ضمن مجال المُلكِية العمومية والمُلكيات الخاصّة التي تتحرّك عبر التبادل والاستثمار. فلقد حفّزت "الرّعاية" على إنشاء المجموعات الفنّية وإنشاء المتاحف ومن ثمّة، على تنشيط السّوق الفنية. ولم تكن المتاحف، المنتشرة بالمدن الأوروبية، مجرّد مستودعاتٍ تُودَع فيها القطع الفنية والتحف، بل كانت، ولا تزال، شاهدةً على مدى "رفعة الدّولة وسيادتها" وهيبتها، وبنفس القدر، على مجد تاريخها وعبقرية مُبدعيها، انظر مثلاً "قاموس الأكاديميّة الفرنسيّة" (1762).
لا تستجيب حركة الاقتناء العربية لتطلّعات التجارب الفنية
في كتابها "الفن المعاصر" تقول الباحثة دوميزون روج، متحدّثة عن سوق الفنّ في فرنسا اليوم: "في الواقع إنّ سوق الفن نسخة من الاقتصاد الوطني، بل والعالمي أيضاً، إنّه يتفاعل مع قانون العرض والطَّلَب، كأيّ سوق". وفعلاً، يمكن للفن، عندما يكتسح ساحة المعاملات الماليّة ويصبح سوقاً، أن يكون عنصراً متحرّكاً ومُحرِّكاً للاقتصاد، متأثّراً ومؤثِّراً.
وتُقدَّر الأموال المرصودة اليوم في مجال رعاية الفنون من قبل الخَواصّ فقط بمليارات اليوروهات بكلّ من فرنسا وإنكلترا وإيطاليا وألمانيا، أمّا في أميركا فضعف ذلك بخمس مرّات، نظراً إلى أنّ تكوين المجموعات الفنيّة من الخصائص المكوِّنة لصورة المؤسَّسات الخاصّة. ويجب أن نفهم أنّ العواصم التي تمثّل مراكز إشعاع اقتصادي في العالم هي نفسها التي يزدهر فيها الفنّ وسوقُه وتنشط رعاية الفنون بها وهي: نيويورك، وطوكيو، ولندن، وباريس، وروما، مثلما نتحدّث اليوم عن دبي آرت أو عن بعض المبادرات بشنغهاي وبالدوحة ضمن الأقطاب الناشئة للترويج الفنّي.
وليست سوق الفنّ مجرّد نقاط لبيع الأعمال الفنية، بقدر ما هي ملتقى للعديد من الفاعلين الذين يُسهمون في إنماء القيم الفنّية والمصرفية ضمن مقاربة علائقية، يتعالق فيها المعرفي مع الترويجي في أطر عَمَليّة. وفي كتاباتها عن سوق الفن الراهنة طالما أكّدت عالمة سوسيولوجيا الفنّ الفرنسيّة ريموند مولان "إنّ تقويم الأعمال الفنّية ينشط داخل الشبكة الثقافية من قِبل المختصّين ومحافظي المتاحف والقيّمين على المعارض ومؤرّخي الفنّ والنقاد والخبراء في الأنماط الفنّية المُختلفة". كما أنّ النّقاد هم ضامنو القِيم الجَمالية وما يترتّب عنها من قيم مالية.
ليست السوق نقطة بيع بل ملتقى فعّال للتنمية والتأثير
ولكنّ الأمر يختلف في البلدان العربيّة من حيث ملامح السوق وشروط وجودها. إذ لم يرتق الاقتناء الفنّي إلى ظاهرة السوق المنظَّمة بما للكلمة من معنى، حتى يكون "نسخة" من الاقتصاد الوطني أو القومي. فما زالت الرعاية وكذلك السوق في أغلب الدول العربية، رغم بذخ التراث الفنّي وثرائه، على هامش الاقتصاد، على هامش المُجريات السياسية، بل من المسائل الثانوية جدّاً، أو العَرضية، أو المنسِية، حيث وفي غياب المقارَبة المعرفية، ما زالت السياسات تتعمَّد تهميش "مفهوم الإبداع الفنّي" بانتظام، وحيث روّجت لمفاهيم عن الفنّ لا علاقة لها بالفنّ، وترى أن النفقات على الفنون والآداب هي من باب المزيّة والتشجيع والشفقة. في حين أنّ الفنّ لدى الدول التي سادتِ العالم، بقي رمز المناعة الحضاريّة وعلامة القوّة والسيادة والثقة في النفس.
لقد تَمكّنّا من الإفادة من فنّ اللوحة الحديثة، وتفنّنا في تمثُّل الأساليب الإبداعية وتقنيات الفنّ الحديث واستوردنا خاماته من مَحامل ودهون وأدوات. ولكنّنا لم نستورِد منظومةَ القِيم الشاملة أو بنية الفِكر التي نشأ فيها هذا الفنّ وترعرع، وهو مأتى الفجوة الخطيرة التي بات المجتمع العربي يتخبَّط في مضاعفاتها، وخاصَّة ما يتعلّق بالاقتناء وغياب مرتكزات لسوق فنّية. فلو توقّف الممثّلون التجاريّون عن استيراد المواد الفنّيّة: قماش الكتّان، الدّهن الزّيتي، الفراشيت، الورق المحبّب، الألوان المائية الأصلية؛ لسبب أو لآخر أو لطوارئ في الاتفاقيات الدولية، لأُصيبَت حركة إنتاج اللوحات الفنّية بالشلل. وينسحب ذلك على نشاط الأكاديميات الفنّية والنوادي. علماً أنّ اللوحة الفنّية ما تزال تحتلّ نسبة 90 % من أشكال الإنتاج التشكيلي بالعالم العربي.
ألا يفسّر ذلك أنّ لدينا في العالم العربي حركات فنّية بحجم ما لدينا من تجارب إبداعية، وبالمقابل، ليس لدينا حركة للاقتناء الفنّي تستجيب لتطلّعات هذه التجارب! ألا يعود ذلك إلى وجود لاتوازن في المشهد الثقافي العربي! فقد استوردنا ظاهرة "المعرض الفنّي"، حيث يُعرَض العمل الفنّي كموضوع للنّظر فقط، ولم نوطِّنها على أساس شامل يأخذ بعين الاعتبار ما يتّصل بالمعرض من وظائف ورهانات مثل التنمية الذوقية والتربية الجمالية وتنشيط الفكر التأويلي والحسّ النقدي. وغير ذلك من مستلزمات ثقافة العرض واستتباعاتها. والنتيجة هو أنّ المُبدِعين يعرضون أعمالهم لزملائهم المبدعين وتلاميذهم.
ليس ثمّة جمهورٌ فاعل في تنمية القِطاع ولا وجود لرعاية معمَّمة. ومن ثمّة، بغياب اجتماعية المعرفة الجمالية ضمن مقاربة تربوية وبغياب جمالية للتلقّي ومقاربة علائقية لمفهوم الفنّ في راهن المرحلة، وبغياب مقاربة مؤسّساتية متينة (متاحف ومؤسّسات للترويج والنّشر...) يتعذّر وجود حركة لاقتناء الأعمال الفنّية.
وإن وجدت بعض البوادر الخاصّة فهي نتاج سلوك مزاجيّ، سريعاً ما يتقلّص ثمّ ينحسر لعدم قدرته على الصمود أمام أبسط الأحداث الاقتصادية والسياسية، مثلما وقع مع حرب الخليج، سنوات التسعين، أو مع الثورات والانتفاضات العربية أو مع موجات الأزمة الوبائية منذ بداية سنة 2020، أو مؤخّراً مع الحرب الروسية الأوكرانية. وتعود هشاشة هذه المبادرات إلى غياب استراتيجيا بعيدة المدى، استراتيجيا، يُفترَض أن تكون مبنية على مقاربات معرفية متينة تتّصل بالرّاهن الثقافي والتاريخي ورهانات المجتمع والسّياسة والاقتصاد. فلا يمكن تصوّر سوق للفن من حيث هي ظاهرة معزولة.
* باحث وتشكيلي من تونس