كلّ حديثٍ عن الاستشراق ما بين نزاهته من جهة وعِلميّته من جهة ثانية، أو حتّى ارتباطاته بثنائيّة المعرفة والسلطة، يستدعي تمعُّناً بحقلٍ من حقوله اختصّت به المدرسة الألمانية التي اختطّت لنفسها مكانة مميّزة وأسلوباً عرّفها عن غيرها من المدارس الفرنسية والإنكليزية على وجه التحديد ولهذا مسبّباتٌ عديدة.
"الاستشراق الألماني في زمن الإمبراطورية" عنوان الكِتاب الصادر حديثاً بجزأين عن "المركز القومي للترجمة" بالقاهرة، للباحثة الأميركية من أصل ألماني سوزان مارشاند وترجمة رضوان السيد.
تطرح الباحثة مفهوماً أرحب عن الشرق لا تستنزف فيه الموقف النقدي من الاستشراق بطبيعة الحال، بقدر ما تضعه في جغرافيا غير مؤطّرة تمتدّ لتشمل الشرق الآسيوي البعيد الهندي والصيني والياباني وآسيا الوسطى وكذلك الشرق الأفريقي أيضاً. إلّا أنّ الفترة الزمنية التي توليها العناية والدرس هي أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.
وبملاحظةٍ سريعةٍ يمكن أن نلتمس من هذه المرحلة الزمنية إشارات تُحدّد القيمة السياسية، ففي هذه المرحلة انهارت إمبراطوريات ونشأت دولٌ قومية سيادية جديدة، وتمّ خوض حروب كُبرى، وبرزت مفاهيم سياسية شاملة مثل الإمبريالية، وفي ظلّ ما سبق من قوى متصارعة كانت الحركة المعرفية الاستشراقية على أشدّها.
الكتاب محاولة للتعرّف على أسباب الاهتمام الألماني بالشرق ودوافعه التي تتوزّع على نواحٍ عدّة منها؛ انتشار الرومانسية بوصفها مذهباً فكرياً تعتمد على إرث كلاسيكي بجانبيْه اليوناني والروماني ولهذين تواصلُ تاريخي وجغرافي مديد مع الشرق. لكن مع ذلك فإنّ هذا الاهتمام يوصفُ عادةً بـ"المتأخّر" مقارنةً بنظرائه، وأنّ أوّلياته التي تفصّلها أستاذة تاريخ الفكر بـ"جامعة لويزيانا" بقيت في حالة من التأثّر الشاعري بالنصوص وهذا ينسحبُ أيضاً على تراث وأثر العهدين القديم والجديد.
وسرعان ما انقلب الحال في نهايات القرن التاسع عشر وبات "الالتحاق" بالرّكب شرطاً متلازماً يجمع المعرفة بالسياسة الاستعمارية التي بدأت ترسّمها ألمانيا خارج حدودها وإن لم تكن نزعتها التوسّعية بذات القدرة على الوصول إلى ما وصل إليه رومانسيو القرن التاسع عشر بخيالهم الأدبي.
ينقسم الكتاب إلى عشرة فصول وهي: "الاستشراق في المدّيات الطويلة"، و"المستشرقون أيام الافتتان بالحضارة الهيلينية"، و"مستشرقون متوحّدون"، و"نهضة الاستشراق الثانية"، و"غضب استشراقي"، و"نحو مسيحية شرقية"، و"الانفعالات والإثنيات"، و"الاستشراق في عصر الإمبريالية"، و"تأويل الفن الشرقي"، و"المستشرقون والآخرون".
يُشار إلى أنّ مارشاند متخصّصة في التاريخ الثقافي والفكري الأوروبي والأميركي ولها عدد من الأبحاث حول القرنين التاسع عشر والعشرين.