سورية بعد الفتنة.. رحلة الوالي لتعزيز الحكم المحلي ودعم اللغة العربية

12 مارس 2022
رسم لمشهد من الفتنة الكبرى التي حدثت في سورية وجبل لبنان عام 1860 (Getty)
+ الخط -

كان من عادة الولاة العثمانيين أن يقوموا بـ رحلة استكشافية في أنحاء الولاية التي يكلفون بها، وكانوا يضعون في نهاية تلك الرحلة، تقارير تفصيلية تتضمن وصفاً لأحوال الولاية، ومقترحاتهم للنهوض بالأعباء الموكلة بهم. وتعد رحلة الوالي محمد رشدي باشا شرواني في أنحاء سورية خلال العامين 1861 و1862، واحدة من أهم هذه الرحلات كونها تمت بعيد كارثة عام 1860، وما نتج عنها من مذابح طائفية؛ وضعت حكام إسطنبول موضع اتهام دولي، وخولت الدول الأوروبية بالتدخل في الشؤون الداخلية للسلطنة.

وكانت مهمة الوالي شرواني باشا، كردي الأصل وأحد كبار شيوخ الطريقة الخالدية النقشبندية، أن يعيد هيكلة الولايات السورية المتعددة ضمن ولاية واحدة، مع منح استقلال إداري لمتصرفيتي جبل لبنان وبيت المقدس، وقد قام بأعباء المهمة على أكمل وجه، وغادر الولاية مباشرة بعد انتهاء مهمته التي يشرحها في تقرير مفصل.

والوالي شرواني باشا هو واحد من أهم الشخصيات العثمانية خلال فترة حكم السلطان عبد العزيز الحساسة، والتي شهدت أخطر صراع على السلطة بين الصدور العظام والسلاطين، كما أن خصومه يتهمونه بأنه هو الذي منح خديوي مصر إسماعيل باشا مزيداً من الصلاحيات في الحكم الذاتي في العام 1873، زاعمين أنه حصل على رشاوى مقابل ذلك، ولكن يبدو أن نزعته اللامركزية هي التي دفعته لدعم الخديوي، وأيضاً لوضع قانون مرن لمتصرفية جبل لبنان ضمن لها هامشاً واسعاً من الحرية.


القدس وحوران

يقول الوالي محمد رشدي باشا شارحاً حيثيات التقسيمات الجديدة: "بيّنت قبلاً بأنّ لواء القدس الملحق بسورية لأهمّيته واتساعه قضى القرار العالي بأن يُدار بشكل متصرفيّة، وأن يكون له استثناءات عن سواه من الألوية، ولذلك فقد استُدعي متصرّفه حضرة صاحب السّعادة إليك، وأعطيت له التّعليمات المطلوبة، وأُفهم شفاهاً، وجرت المذاكرة معه على الأقضية التي هي من حصّته في التشكيلات الجديدة، وعيّنت وفرزت، ثمّ أعيد إلى مكان عمله، وانتخب وعيّن قائمقام ألوية بيروت وطرابلس الشّام والشّام، كما أوفد إلى لواءي صيدا وحماة الموظّفين المؤقّتين الخاصّين بإجراء الترتيبات".

الصورة
محمد رشدي باشا الشرواني - القسم الثقافي
(محمد رشدي باشا الشرواني)

ويضيف: "والآن، وكما يتبيّن من العريضة المخصوصة المقدّمة، أنّه في لواء حوران في جهة بادية الشّام يُقيم عربان العشائر معرضين في ذلك الموقع لأشقياء العربان من ذوي الخيام بالتسلط والتعدّي المستمر، ممّا يستدعي أن يكون القائمقام في هذه الجهة صاحب شخصيّة محترمة عند العربان. ولمّا كان أميرالاي العونيّة السّابق صاحب العزّة محمّد سعيد بك من ذوي المكانة والهيبة عند العربان وأهل حوران، وذا دراية كافية، فقد انتخب قائمقاماً لحوران، على أن يكون قائمقام حوران السّابق صاحب العزّة إبراهيم بك قائمقاماً لصيدا، وأوفدا لمكان وظيفتهما. كما انتخب صاحب العزّة خليل بك من أعضاء المجلس الكبير الملغى في الشّام، قائمقاماً لحمص؛ وذلك لأنّه كان قد أوفد بصورة مؤقّتة لإجراء الترتيبات في لواء حمص الذي شُكّل من لواءي حماة وحمص، فأنجزها وأبرز في هذا المجال مآثر خدمة ورويّة عدا عن كونه قام قبل ذلك بالقائمقاميّة، وهو يعمل في حقل الأمور الملكيّة منذ صغر سنه، فاكتسب بذلك قدرة تامّة على إدارة مهام الحكومة، بالإضافة إلى أنّه من أصحاب الدراية والخبرة والاستقامة".


تنوع طائفي

ويشرح الوالي الشرواني أوضاع ولاية سورية الجديدة بقوله: "لقد كانت الأجزاء الأصليّة لولاية سورية تتألّف من ولايتين ومتصرّفيّة، تضمّ تسع قائمقاميّات، وثمانين ونيفاً من المديريّات، على أنّ التشكيلات الجديدة قضت من جانب الباب العالي بأن تقسّم الولاية - باستثناء لواء بيروت – إلى سبع قائمقاميات، وعدا مراكز الولايات والألوية إلى سبعة وثلاثين قضاء، ولمّا كان ربط وإلحاق بعض الأقضية قد جرى بشكل لا يتناسب مع مواقعها تماماً، وكما سنبينه في جدول سنقدّمه فيما بعد، وبموجب خريطة سورية، وبمراجعة أرباب الوقوف في المعاملات الصّحيحة، يشير كل ذلك إلى ضرورة التوفيق في تعيين النسبة الجغرافيّة لتلك الأقضية والنواحي والقرى في التحاقها وارتباطها وفق موجباتها المحلّية، وأن ينتخب ويعيّن لها المدراء الأكثر أهليّة، ومن أولئك الذين أرسلوا من دار السّعادة وسبق لهم أن كانوا في تلك الأقضية خلال الإدارة السّابقة، والذين انفصلوا بطبيعة الحال".

ويشرح شرواني باشا خصوصية هذه الولاية بتأكيده على التنوع الطائفي الكبير: "بالرّغم من أنّ أحكام النظام تقضي بأن يؤلّف في الأقضية مجلسان، وفي كلّ مجلس ثلاثة أعضاء، غير أنّ ولاية سورية تضمّ طوائف مختلفة كالمسلمين، والدروز، والنّصيريّة، والإسماعيليّة، والمتاولة، والرّوم، والرّوم الكاثوليك، والموارنة، والسّريان الكاثوليك، والكلدان، والأرمن، والأرمن الكاثوليك، واللاتين، واليهود، والأقباط، وتبدو الأكثريّة في بعض الأقضية من الطوائف غير الإسلاميّة، مع مساواتهم بحكم النّظام، ولمّا كان بين الروم والموارنة والكاثوليك تباين واختلاف، وكلّ طائفة منهم لا تريد أن تتبع غيرها، بل تريد أن يكون لها عضو في كلّ مجلس، وهذا ما أدعو له، ولمّا كان من البديهي أنّه لا يمكن تمثيلهم كلّهم في مجلس منتخب ثلاثة أعضاء فمن أجل دفع هذه المشكلة، ووفق الإيجاب، ينتخب من المسلمين ثلاثة أعضاء، ومن الملل الأخرى ثلاثة أعضاء، ويقسم المجلس إلى شعبتين، الأولى تنظر في الأمور الإداريّة، والثّانية تختصّ في الدعاوى والجنايات، ويحصر وجود الرؤساء الروحانيين، وهم من الأعضاء الطبيعيين، في الشّعبة الإداريّة".


انتخابات بلدية وجهاز للمحاسبة

يقول شرواني باشا إنه جرت انتخابات بلدية في لواء الشام، أي دمشق، "واختتمت جميع الترتيبات باستثناء لواءي القدس وعكّا، ونحن بانتظار ورود أوراقهما جملة في هذه الأيّام. وكما عرض في أعلاه فإنّه إذا لم يتمّ تأليف مجالس الألوية الملحقة حسب النّظام، فإنّه من غير الممكن تأليف مجالس الولاية، وإنّ قضية تأليف المجالس الكبرى في الولايات وإنّ كانت تستدعي الانتظار حتى الانتهاء من الترتيبات في كافة الألوية الملحقة، فإنّه كي لا تتوقّف مصالح الولاية الآن، وإلى أن تنتهي التشكيلات في الألوية المذكورة، وترسل مضابطها الانتخابيّة وفق أنظمتها، رؤي من المناسب أن يؤلّف مجلس إدارة الولاية، ومجلس تمييز الحقوق والجنايات بصورة مؤقّتة، وأن يعيّن لها الكتّاب اللازمون، وهكذا فإنّ المصالح العامّة تسير بصورة حسنة".

ويشير الوالي الشرواني إلى أنه تم تعيين مدير للمكاتبات العربية، ويقول: "لمّا كانت أكثر المعاملات التحريريّة، وخاصّة مضابط الألوية وأوامرها "بيورولدي" تكتب باللغة العربيّة كان لا بدّ من اختيار مدير لشعبة الرسائل العربيّة يكون من أهل المقدرة ليتولّى مهامها، وقد انتخب صاحب العزّة خليل أيّوب أفندي لهذه الخدمة، وهو من الموظّفين السّابقين الملحقين بالذين كانوا قد قاموا بمأموريّات فوق العادة، وعمل أخيراً مترجماً في المجلس الكبير لإيالة صيدا، وهو من المشهود لهم بالأهليّة الشّاملة بشكل خاصّ".

وحول جهاز المحاسبة أوضح الوالي: "عيّن لمحاسبة الولاية محاسب ومعاون، وفي رفقته ثلاث شعب، هي: شعبة الواردات، وشعبة المصادقات، وشعبة المحاسبة العامّة، ولكلّ منها رئيس كتّاب ومدير أوراق لقيد وحفظ الرسائل العائدة للمحاسبة من قبل كاتب الدفتر، وخصّص لهذه الشعب الثلاث اثنا عشر كاتباً، بما فيهم رئيس الكتاب، وأفرد لكلّ شعبة غرفة خاصّة. وتوفيقاً للترتيبات الجديدة فإنّ شعب المحاسبة هذه آخذة برؤية الاختصاصات المعيّنة والمحدّدة لها، ناظرة في المحاسبات القديمة، لإيالتي الشّام وصيدا المفسوختين عاملة في حلّ وتسوية البعض البارز من حساباتها، وفرز واردات ومصروفات كلّ لواء وما يضمّه من أقضية وقرى ومرتّباتها السّنويّة، وبقاياها القديمة، إلى جانب تجديد وتأسيس القيود القريبة العهد، وهكذا فإنّ الإدارة تسير على النّحو المطلوب، وكان يؤمل أن يكون لكلّ لواء مقيد، وله رفيق في مركز الولاية، غير أنّه لمّا كان من غير الممكن إيجاد مثل هذا العدد من المقيدين ورفاقهم، عدا عن أنّ المخصّصات لذلك غير كافية، ولمّا كان إجراء المحاسبة على الوجه الذي رسم أعلاه إنّما هو من الأمور التي تؤدّي إلى سير أمور الماليّة بشكل مرتّب وحسن، لذا فقد صرف النظر عن تعيين مقيد ورفيق لكلّ لواء، واكتفت الولاية بالشّعب السّابقة".

ويتابع: "لقد عيّن لكلّ لواء مدراء للمال وللرسائل بما يكفل ويكفي حسن سير مصالح الإدارة، ولمّا كان لم يحدّد في المخصّصات مرتّبات الكتاب في مجالس الأقضية والألوية، المسلّم بلزوم استخدامهم فقد خفضت رواتب أعضاء المجالس في الأقضية والألوية، وعيّن لهذه المجالس كتّاب للتركيّة والعربيّة، وشرع بتنظيم الدفتر الذي يضمّ أسماء موظّفي وكتّاب الولاية عامّة، ومقدار مرتّباتهم، وتاريخ مباشرتهم العمل لتقديمه".


تسهيل جباية الضرائب

يؤكد الوالي محمد رشدي باشا على أنه "من أجل أن يدفع أهالي القرى الضرائب المترتّبة عليهم بأوقاتها المعيّنة، وحتّى لا يقع سوء استعمال في جباية الضّرائب، ويكون الاستيفاء مضبوطاً، وفيه تسهيل على الفلّاحين، فقد جمعت المرتبات العامّة السنويّة لكافّة القرى، وحدّد موعد تسديدها ابتداء من حزيران/ يونيو لغاية شباط/ فبراير؛ وذلك لأنّ إنتاج الحاصلات المتنوّعة هُنا يتمّ خلال التسعة أشهر التي قسّطت عليها، كما فرض على كلّ قرية من المرتّبات الحاليّة، والبقايا حيث يكون لها مذكّرات خاصّة تتضمّن التنبيهات المقتضبة، وتوزّع هذه المذكّرات على المختارين ومجالس الاختياريّة الذين يزوّدون بتعليمات عربيّة مطبوعة تتضمّن المهام المنوطة بهم، في أمور التحصيل، إلى جانب الأمور الأخرى".

ويلفت الوالي الشرواني النظر إلى أنه لم يكن "في بعض أقضية ولاية سورية قبلاً، قضاة ومفتون، بل كانت الدعاوى ترى بين النّاس وفق العادات والأصول العشائريّة، في حين أنّ الترتيبات الجديدة قضت بوجود قاضٍ ومفتٍ، وأن تلغى العادات السّابقة، كليّة، وأن تجري الأحكام وتسوّى في كافّة القضايا الحقوقيّة ضمن نطاق الشريعة المطهّرة، والقوانين المنيفة لمسايرة أساس التمدّن في كلّ جهة، كما يوافق ذلك الحكمة والمصلحة، ولذلك عيّن في الأقضية التي ليس فيها قضاة ومفتون وبصورة مؤقّتة، وعيّن نوّاب للحكّام في الألوية التي تتبعها تلك الأقضية، ولمّا كان لا يوجد في تلك الأقضية من يليق للإفتاء محليّاً، فقد أفرز من المخصّصات العامّة مقدار مناسب، وانتخب المفتون بالرّاتب ريثما يصدر مرسوم تعيينهم، وسيقدّم العرض بأسمائهم إلى جانب مقام الفتوى السّامي".


نهوض في الخدمات

ويصف الوالي في تقريره الأوضاع الخدمية في الولاية بقوله: "قبل التشكيلات كان في الشّام مكاتب رشدية (أي مدارس إعدادية)، ومكاتب صبيان (أي مدارس ابتدائيّة) ومستشفى، وأكثر من عشرين جامعاً ومدرسة، كما كان في الأماكن المناسبة أحواض عامّة، وجسور، ومصانع، وأسواق مستقلّة، وما يماثل ذلك من الأمور ذات المنافع العامّة الكثيرة التي عمرت وأحدثت وأنشئت، كما شقّت عدّة طرق في داخل الشّام وخارجها. ولمّا كانت أزقّة الشّام في حالة غير حسنة فقد وسّعت وفق القاعدة الهندسيّة، وأكملت الإصلاحات في الحي المسيحي، وقطع ما يعبّر عنه بالمصطبة، من الزوائد لأكثر من ثمانية آلاف دكّان ومقهى، وأنشئت كلّها على طراز جديد، وحوّلت الإنارة في الأسواق من القناديل التي كانت تُنار بالزّيت إلى الغاز، وجرى التعاقد من أجل ذلك مع أحد التجّار. وبصدد تزيين البلد وتهيئة أسباب الرقي للزّراعة والتجارة، فالعمل مستمرّ لاستكمال ذلك، ومن جهة أخرى فالعمل جار لإقامة الطرق النّافعة في داخل الشّام، وبوشر بتسوية الطرق التي هي في نهاية الطّريق بين عجلون وحلب، وعندما تتمّ الطرق والمعابر والمخطّطات الأولى للأبنية التي يؤمل إنشاؤها، داخل الولاية، ستقطف الدّولة ثمرات منافعها، ومن أجل ذلك نلتمس الإسراع بتعيين المهندسين، ومأموري النّافعة (الأشغال العامة) للولاية وإرسالهم، ونطلب المساعدة السنيّة من جناب وكالتكم".


مطبعة وجريدة

استكمالاً لخطواته الإصلاحية يقول الوالي الشرواني باشا (الصورة): "لمّا كان من أسس التشكيلات وجود مطبعة في الولاية، وكانت لغة الأهلين عامّة هي العربيّة، وما ينشر عليهم من الأوراق المطبوعة يُكتب بالعربيّة، فقد وجد من اللازم أن تكون هذه المطبعة بإدارة موظّف ماهر باللغة العربيّة، ولمّا كان محرّر جريدة حديقة الأخبار في بيروت خليل أفندي الخوري، من أصحاب المؤهّلات الكافية، فقد تحدّثت إليه حين كنت في بيروت بشأن وجوده، مع ما يلزم للمطبعة من مرتبين للحروف وعمّال، وتمّ تعيينه مديراً لهذه المطبعة، ولمّا كانت حروف المطبعة غير صالحة، فقط طلبت إحضار حروف جديدة من دار السّعادة (إسطنبول) ومجموعة "ليطوغرافيا"، وعند ورود الحروف، فإنّ ترتيبات المطبعة تسلك سبيلها، وحينئذ سيباشر بطباعة جريدة سورية باللغتين التركيّة في جانب، والعربيّة في جانب آخر، ولقد وضعت جميع المصالح في مركز الولاية في طريقها، ومن أجل النّظر في نواقص الأمور التي عهد بها إلى القائمقامين في الألوية الملحقة، واستدراك ما يحتاج إليه الحال للإصلاح والاستعداد له، في مضمار الرّقي".

ويختم الوالي تقريره بالقول إنه سيقوم بجولة ثانية في باقي أنحاء الولاية الجديدة، وسيعرض بالتتابع أحوالها في تقارير منفصلة.

المساهمون