سماجة السؤال الاستفهامي.. هل يضحك الفلسطيني ويفرح؟

29 نوفمبر 2023
عائلة فلسطينية تعود إلى بيتها بعد أن دمرته غارات الاحتلال، خانيونس،26 الشهر الجاري (Getty)
+ الخط -

استطاع الأربعيني النازح تدبير حفنة قهوة، فأشعلَ بين ثلاثة أحجارٍ بضع كسرات من سحّارة خشب، ووضع في الغلّاية قهوتَه "بحذر كريمٍ"، كما تقول قصيدة سميح القاسم، وصبَّ ماءً صالحاً للشرب.

لم يقع أيُّ صاروخ حتّى اللحظة فوق خانيونس في ذلك الصباح، بينما تواصَل صوت "الزنّانة" التي من وظائِفها جعْلُ الفلسطيني معتاداً، من دون موت مُعلنٍ، على ذلك الأفق الثالث المسدود، برّاً وبحراً، وأن يُذعنَ له.

"زنّانة" تريد للزمن كما في ساعة الحائط التي ورد ذكرها في حوارٍ قديمٍ مع جيمس جويس والمحفور على خشبها ما يصفُ الدقائقَ "كلُّ واحدة تجرح والأخيرة تقتل".

ما إن صعدَت رغوةُ القهوة إلى حافّة الغلّاية حتى أخذَ الرجلُ مَسحة مِنها، لأنّه يحبّها بوجه. وبعد أن غلَاها عدّة مرّات، سكبَ في فنجانه تحت ذات الصوتِ اللئيم في السماء، وأصوات مُتداخلةٌ قادمةٌ من مبنى التدريب المهني وقد بات مركز إيواء آلاف النازحين من الشمال.

فقدت العائلة شهيداً فبكَته واستعادت مُضيَّعاً ففرحت به

رشفَ رشفته مُستطعماً المذاقَ الأول، وفوراً لفظَ ما في فمه على التراب، وهو يلعن حظّه، وتركَ الغلّاية تفور على النار وتطفئها، واندلعت الضحكات من الجميع، ما عداه. فقد خسر بعد كلِّ ما وضّبه من وقتٍ عزيز مستقطع لحفلته الصغيرة، مُكتشِفاً أنّه وضع في القهوة ملحاً بدل السكر. هكذا مسح فمه بظاهر كفّه، ثمَّ ضحكَ مع الضاحِكين تلك الضحكة التي يسمّيها العرب "طخطخة"، كنايةً عن الصوت المزيج بين الطاء والخاء.

ولا أحد يرتكب سماجة السؤال الاستفهامي، هل لدى الفلسطيني أشغال أُخرى خارج الإطار البلاغي الذي يجعله دائماً ضحيّة عظمى على مسرح تراجيدي؟ من الطبيعي ألّا يضحك أي إنسان وهو يحدّق في الموت إلا إذا كان غير سويّ، أو أفقدته اللّحظة السيطرة على التعبير، فضحك.

الفيديو، فيديو كلّ المواطنين والناشطين هو الذي يُظهر هذا المسير الفذّ بين الولادة والموت والولادة. هم لا يبدون منتبهين لوجود عدسات الموبايلات. إنَّ ثلاث دقائق كافية لينسى الناس في ظرف طبيعيّ وجود آلةٍ غريبة، فكيف وهم يشدّون سيقانهم وسط الجحيم أو وسط توقّعه، ليسجّلوا الواقع فيجري التحايُل عليه وتكذيبه ويواصلون تسجيله ويثبتون في كلّ مرة أنَّ العدو يقطع دائماً أقصر طريق بين الغطرسة والغباء.

والفيديو ذاته يظهرهم في حياتهم بذات الواقعية التي تتقلّب في أدوار مختلفة لبشر طبيعيّين، ضحكوا مثلما يُفضّل أن يكون الضحك نشاطاً جماعياً، على سهو الرجل صاحب القهوة، والسهو - كما يخبرنا الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون- مادة قديمة من تراث الضحك وستبقى.

ومثل ذلك فرحُ الناس بخروج الأسرى، رغم اشتراطات الاحتلال بمنع أيّ مظهرٍ احتفاليٍّ. هذه خاصية أخُرى غير الضحك، أنّهم كائناتٌ بشريةٌ لديها القدرة على الفرح. فقدت العائلة شهيداً فبكَته واستعادت مُضيَّعاً في الزنازين ففرحت به.

إنّهم لم يفرحوا نكاية في شهداء فلسطين، بل مارسوا فعلاً طبيعياً مقاوماً، وعلى الهمج أن يوقفوا حربهم.

وهو ذاك الفتى منهم وإليهم وإلى العالم يغنّي أغنية "راب" بين البيوت المُحطَّمة، وعلى الهمج أن يوقفوا حربهم.

وأحدٌ ما يصوّر البنت وهي تمشّط شعرها في الساحة، ونسمع الحكواتي وهو يهرب بالسرد من "صار يا ما صار"، إلى "كان يا ما كان" بعيدة، وعلى الهمج أن يوقفوا حربهم.

ننتظر منذ عشرة أيام طلوع الفتى "عبود" مراسلنا الساخر 

ونرى الأب وهو يُلقي شرائح البندورة والفلفل في القلّاية، ويعِد ولده بعصفور جديد حينما يعودون إلى الشمال، ونرى الشابّ الخارج من الركام على حمّالة يصيح بالمفزوعين بذراعين مفتوحتين وبرضوضه صيحة الحياة، وعلى الهمج أن يوقفوا حربهم.

نفعل كلّنا ذلك لأننا نعتبر الشرّ "برّه وبعيد"، رغم عدم يقيننا بأنّهم سيكونون موجودين بعد دقائق لأنَّ الهمج لم يوقفوا حربهم حتى الآن.

ننتظر منذ عشرة أيام طلوع الفتى "عبود" مراسلنا الساخر على الأسطح الغزاوية، حتى سرَت إشاعات بمقتله أو إصابته ثمَّ أطلَّ أخيراً في فيديو على مئات الآلاف يتابعونه في وسائل التواصل الاجتماعي.

هذا الفتى ما زال في شمال غزّة، حيث الموت فرصة سانحة بل مشتهاة أكثر، يرفض النزوح إلى الجنوب، أو ربّما يعجز عن ذلك، لأن غزّة بقوله "هي هي" في أيٍّ من الجهات. فما العمل؟ بعض من العمل أن تُلبس العدو طرطوراً وتضحك عليه.

الفلسطينيون في غزّة الذين ندلّلهم باسم "الغزازوة" لا يتابعون سيل الغضب والتعاطف الشعبي العالمي وصورهم الأسطورية إلّا وهُم يأملون بأن تتوقّف الأسطرة عند حدّها، وأن تكتفي بما انتزعته بمحبّة لا شكّ فيها من واقعٍ أفرط في واقعيّته، حتى أن العباد ليس لديهم طقس للجنازة.

لذلك يبدو الناس هناك غير منساقين إلى وجودهم في المجاز العالي وهو مجاز مُغرٍ، لكنَّ الحقيقة أنّهم بشرٌ عاديّون حملوا ذويهم من العناية المكثّفة في المستشفى إلى نزوح يقولون إنّه "غير مسبوق" في تاريخ الحروب الحديثة.

لقد بات وصف "غير مسبوق" شبيهاً بتصنيفات غينيس، تجد في غزّة ما تسجّله بسهولة. وعندي أنَّ كلَّ نجمةٍ أضاءت وغابت غير مسبوقة. "كل موت مفاجئ" كما يقول محمود درويش.

وعليك أن تسجّل بالفيديو طفلةً في العاشرة أو أكبر قليلاً، تلعب دور الأم لرعاية بنت وولدٍ بعد أن قتلَ العدوُّ الأمَّ الوالدة، وتجد طفلاً يشرحُ الحياةَ ويَصِفُها قبل كلّ شيء بأنّها "ممزّعة"، ويتحدّث عن معاينته أشلاء ذويه وأقربائه قبل قليل ثم دفْنهم، وهو يمشي كأنَّ بلوغ المرء من العمر عتيّاً مقياس آخر هناك، ليس استثنائياً في تاريخ البشر لكنّه فادح في غزّة، ودرس مكثّف للوساخة والنبل على جغرافيا صغيرة ومكشوفة.

كان يُمكن لهذا الطفل أن يكون العجوز قيس بن عاصم حين أُتي بابن أخيه مكبّلاً وقد قتل ابنه، فهو عمّ القاتل ووالد القتيل، إذ عرفَ المصيبة فدرسها بخبرته وقضى وأمر ولم يفكّ حبوَته. هذه الخبرة الصلدة كيف توافرت للطفل حتّى أنّه رأى الحياة ممزّعة ورأى دماءها وأشلاءها وظلّ فصيحاً، بحجم ضئيل وبصوت لا يتلجلج، اكتسبه ابن عاصم في عمرٍ طاعن وذهبت حبوته مثلاً.

الفيديو مفتوح طوال الوقت. الوجود مفتوح الاحتمالات، والغيوم المتوسطيّة تروح وتجيء، والأرض زلزال. ونحن لسنا "ألتراس" نسجّل الأهداف، بل نحتفي بالقدرة الاستثنائية والملهمة على البقاء الفذّ، ولا نريدها خاصية فلسطينية، إنّما يجوز القول إنّها موجودة في نموذج فلسطين بجدارة، وبجدارة أعلى في ساحلها الجنوبي هذه الأيام.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون