"شوام مِصر" إضافة تشريفٍ، حسب عبارة القدامى، يُشرِّف طرفا الإضافة عبْرها أحدُهما الآخرَ، وفيها يُسند المثقّفونَ القادِمون من بلاد الشّام إلى مصرَ، التي جاؤوها لإرفاد الحركة الثقافيّة بخصوصيّات المَشرق، كنغمةٍ تُستجلب مِن وراء الحدود لتثريَ نشيدًا محليًّا.
كما تومئ هذه الإضافة إلى الانسجام التامّ الذي رَبط بين نُخبةٍ مُهاجرة ومِصر التي صارت لهم موطنًا، عن روحها العميقة يُعبّرون وفي أجوائِها يتنفسّون، كأنَّ البَلدَيْن، منْشأً أو إقامةً، رِئتَان مُتكاملتان، منهما تشيعُ أنفاس الآداب والفنون ونَفائسها.
ورغم الأهميّة القصوى التي حظيت بها هذه الظاهرة، فإنها لم تَنل حظَّها من التحليل، ضمن "النهضة العربيّة" ولا اعتُبرَت في تطوّرها مُولّدًا من المُولّداتِ الأصيلة التي أضفت على فكرها طابَع الانفتاح والنسبيّة، وحتى الكونيّة، طابعًا يُخفّف من غُلواء الثقافة الواحدة، ذات المرجعيّة اليَتيمة والصّوت الغالب.
أدركت سلمى مِرشاق سليم، وهي ابنة شوام القاهرة، منذ أيام الطّلب الأولى في رحاب "الجامعة الأمريكيّة" هناك، أهمية هذه الفئة التي كانت، في "أرض الكنانة" تشارك، جنبًا إلى جنبٍ مع إخوانهم المصريّين، في نَحت بناء فكريّ، ظلّ لعقودٍ يتلمّس طريقه ثم يُضيئه للآخَرين. اصطلح جميعُهم على الانخراط في "النّهضة" وأرادوها ازدهارًا للعرب بعد طول غَفوةٍ، لسانُها عَربيٌّ معاصِرٌ جامعٌ، لا تطاوله حدودُ الجغرافية وإن رسَّخها مستعمر بغيضٌ.
يكمن مشروع هذه الباحثة المقتدِرة في تسليط الضوء على الدور الرئيس لشوام مصر من خلال عمَليْن متكاملَيْن خصّصتهما لاثنَيْن من أبرز وُجوههم الذين غَمطهم التاريخ حقّهم. يتعلق الأول بـ "نقولا الحدّاد (1872-1954)، الأديب العالِم" (دار الجديد، 2013)، وبسائر مساهماته التي تكشف عمق أغواره في ميادين القلم والعِلم. وفيه أنجزت إحصاء دقيقًا لكلّ ما أصدره الحدّاد من آثارٍ، طيلة عقود، توَزَّعت على أعمدة الصّحف والمجلات. ولم تكتف الباحثة الصّبورة بذكر عناوين هاتيك الآثار، بل قدّمت عن كلٍّ نبذةً، موجزة ولكنْ كافية، أبانت عن المضمون والتاريخ الدقيق، كما ربطت النصوص بعضَها ببعض لتقديم رؤية هيكليّة مترابطة، يُفهم كل واحدٍ منها في علاقاته العضويّة بالبقيّة.
وأما ثاني هذه الأعمال، فدراسة مُفصّلة عن الآثار الكاملة لـ "إبراهيم المصري (1900-1979) رائد القصّة النفسيّة"، (دار الجديد، 2006)، وقد أضافَت إليه عنوانًا فرعيًّا: "مدخل بيبليوغرافي"، مما يؤكّد أنَّ عملها "مَسلَكٌ يساعد الدارسين على السباحة في نهر هؤلاء الكتّاب". وفيه، بَذلت سلمى مرشاق مجهودًا جبّارًا في استقصاء حيثيات كلّ مقال وأقصوصة أو كتابٍ لاستعادة سياقه الثقافي والتاريخي الذي يمكّن القارئَ من فهمٍ دقيقٍ له، بعد أن ذِكْر خُلاصَته.
ولذلك، كان هذا البحثُ مُزدوج القيمة، تضمّن من جهة أولى بيبلوغرافيا دقيقة عن هذا الكاتب الرائد شملت كلَّ إنتاجه، ومن جهة ثانية، فتح حقلاً معرفيًّا خصيبًا، حول الإسهام الشامي في المشهد الثقافي المصري الذي كان مرآةً عاكسة للعقل العربي أواخر عصر النهضة وفترة ما بعد الاستقلال، حيث انكب هذا الفكر على تحديد هويته وتجديد شكله التعبيري بقطع النظر عن الجذور الجغرافيّة لرواده. ولطالما اعتبرها حُدودًا مصطنعةً.
وهكذا، تندرج أعمال سلمى مرشاق ضمن التدقيق الفيلولوجي الصارم، الذي قلّ اليومَ في ميدان الأبحاث أتْباعُه. وهدفه الإحاطة الكليّة بمؤلفات العَلَم المدروس والحصر الشامل لإنتاجه، لاسيما إذا كان متفرقًا في أعمدة الصحف أو قد حُبّر على فترات من الزّمن متباعدة، فلم يُعتنَ بِجَمعه، أو إنه كُتب بأسماء مستعارة، يصعب التحقق من نسبته إلاّ على أهل الاختصاص.
وقد نهضت سلمى مرشاق بهذه الجهود جميعِها مواصلةً لذلك التقليد العلمي، وربّما تأثرت فيه بأساتذتها الغربيين الذي أشرفوا على أعمالها، الذي ساد في سبعينات القرن الماضي. وهو تقليد حقيق أن يعاد اليوم إلى باقة المناهج والأدوات البحثيّة الجامعيّة التي أصابها الهُزال فلم تقو على ممارسة مثل هذه الاستقصاءات الشاملة التي تَتَطلّب التيهَ في أضابير المكتبات ورفوف الأرشيفات والتنقيب في مئات الصّحف والمجلاّت، وجلّها غير مُفهرَسٍ، مما يؤكد قيمة جهدها المبذول... والمغموط.
كان الطموح الأول الذي حرّك سلمى مرشاق إصدار عمل يشبه سلسلة "نوابغ الفكر العربي" ويحتذي أسلوبَها الذي كان يُلهم عقول الناشئة، بفضل رَسْمه البديع لسير الكبار. لكنّها عَدَلت عن ذلك والتزمت بالمنهج الفيلولوجي الذي يُهدي أعمالَها "مستندًا يعتمده كلُّ مَن يَرغب دراسة مؤلفات" شوام مصر.
يُظهر هذا المَنهج الذي اجتُرح في هذيْن التأليفَيْن، أنّ ظاهرة "الشّوام" ليست مجرّد موضوعٍ تاريخيّ، بل حقل معرفيّ وليد، حقيق أن تُستكَشَف مساحاته الفسيحة وأن تُرتادَ مسالكه الوعرة، شريطةَ ألاَّ نكتفيَ فيه بترديد شعارات الأخُوّة وأن يصار إلى التنقيب الدؤوب في ثنايا الفهارس والكاتالوغات وبطون الصحف والمجلات، عن جماع الآثار التي حبّرها هؤلاء الشوام وهم يخدمون مثلاً ثقافيًّا أعلى، كان الانتماء فيه إلى وطن المعرفة باتساعه وتراميه وخوض تجارب الوعي بجسارة القلم والفكر، في عربية حداثية ناصعة تفيد من أجواء الحرّية وتغتني من عيون الفكر النقدي، وهي ثرَّةٌ غَزيرةٌ.
حقل خصيب حول الإسهام الشامي في المشهد الثقافي المصري
إلا أنّ الحقلَ الذي دشّنته سلمى مرشاق أوسع من أن يستنفذه كتابان أو ثلاثة. ووجوه الشوام المِصريّين المشهورين ينبغي ألاّ تخفيَ عشرات المفكرين الذين، لما حلّوا بمصر، أسهموا بالتدريس والكتابة وإنشاء الجمعيات، زمنَ كانت أكبر مُدنها تغلي ثقافةً وفنًّا وتشتعل حوارات فكرية وسجالات حول أمهات قضايا السياسة والفنّ والدّين التي كانت تهزّ عالَمنا العربي، إثر حَربَيْن عالميّتَيْن وقَبلهما، في بحثه عن هويّة جديدة، بعد أن جثم الاستعمار لعقودٍ ثم ولّى.
إنّ ما قامت به سلمى مرشاق، على أهميته القصوى، ليس سوى تمهيد لدربٍ طويل ونزع للأشواك منه. ولا بدّ وأن تتّصلَ الجهود حتى تشمل جلَّ الشوام الذين أثّروا في المشهد المصري والعربي، وربّما العالمي. ولم لا يُدرس، على ضوء هذا المنهج عينهِ، شوامُ المغرب وأوروبا وأميركا وغيرها من أصقاع المَهجر، حيث نزل ضُيوف الكلمة هؤلاء فقادوا حركاتِ الفكر والأدب، في سبيل أن تدرسَ إضافتهم على ضوء القيم الكونيّة التي بَشّروا بها.
مَسلَكٌ يساعد الدارسين على السباحة في أنهر أُهملت خرائطها
سؤالٌ، في الختام، مؤلمٌ، لا مناصَ من طرحه: لماذا انقطعت ظاهرة شوام مصر ولم يعد مثقفو الشام جزءًا من نسيج الثقافة المصريّة التي تكاد اليوم تتماهى مع السّلطة؟ ولماذا غابت هذه الاهتمامات الموسوعيّة لدى كتّاب البلديْن أصلاً؟ لا شكَّ أنّ الجواب يكمن في أجواء الحرّية التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين والتي أبدعت سلمى مرشاق في وصفها وإحيائها، كأنّما نستنشق نسماتِها العَبقة. شهادتها على عَصر الشّوام نفيسة، ثمرة آلاف الساعات التي أزْجَتها بين الكتب المصفرّة والجرائد والمجلات المهترئة. لكم يُغني مصرَ إضافة الشّوام إليها.
(كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس)