سرّ الفلسطيني

08 ابريل 2024
وليد دقّة (تصميم فنيّ للصورة: محمد شحادة)
+ الخط -
اظهر الملخص
- وليد دقة، الأسير الشهيد (1962-2024)، عاش حياة مليئة بالتحديات، متجاوزًا الركود الفلسطيني بنظرة معمقة للحرية، معبرًا عنها في أدبه ورسائله، ومنتقدًا بسخرية الواقع الفلسطيني والتحولات في نضال الأسير.
- امتلك وعيًا استثنائيًا تجاوز به جدران السجن، مستخدمًا أدوات متنوعة للتعبير عن مواقفه وتمسكه بالحياة، وعاش تجارب فريدة مثل حفل زفافه القصير وتجربة الأبوة عبر تحرير نطفة.
- في أعماله الأدبية، مثل "سر الزيت"، يعكس وليد دقة رؤيته للتغيير والتحرر، مؤكدًا على أهمية التعليم والمعرفة في تجاوز العقبات، وترك إرثًا يؤمن بمستقبل محرر للشعب الفلسطيني.

صورٌ قليلة التقطت له خلال سنوات الاعتقال؛ أو في "الزمن الموازي" كما أحسّ وفكّر به وكتَب وليد دَقّة، كانت عيناه تقولان أشياء كثيرة، تشيران إلى الواقع الذي لم ينفصل عنه لحظة، بل انغمس في تفكيك تفاصيله وتجاوز حالة من الركود علِق بها الفلسطيني منذ عقود، بقلبٍ شجاع ورؤية نافذة لم تكبّلهما خطابات ماضوية ورطانات تبرّر منطق الخضوع والاستسلام.

تأسست تلك الصورة الراسخة على نظرة معمّقة واستثنائية لمفهوم الحرية، عبّر عنها الأسير الشهيد (1962 -2024) في تنظيراته وأدبه ورسائله، وجعلته لا يتخلى يوماً عن النقد الممزوج أحياناً بسخرية لاذعة وكلمات مشغولة بالبساطة والعمق في آن، حيث يقول في رسالته التي كتبها بعد عشرين عاماً في الأسر: "لقد أقنعونا (يقصد الأسرى) بأننا شخصيات مهمة. لِمَ لا!! فـ"برستيج" الموقع يتطلب.. في كل العالم هناك دول وحكومات لها أسرى، إلا نحن أسرى لنا وزارة في حكومة ليس لها دولة!".

وذهب أبعد من ذلك في كتابه "صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب" الذي صدر عام 2010 بتقديم المفكر عزمي بشارة، حين يتحدّث عن تحوّلات الأسير الفلسطيني من النضال لتحرير الوطن إلى النضال المطلبي بحسب اشتراطات وجوده في السلطة الفلسطينية، وبجرأته المعهودة يكتب "نموّل بإرادتنا مشروعاً إسرائيلياً لإخراج الأسرى، نواة النضال الصلبة، من دائرة الانشغال بالهمّ الوطني التحرّري إلى دائرة الغرق بالهمّ المطلبي الخاص".

امتلك وعياً مفارقاً تجاوز زمنه ليخترق بأفكاره جدران السجن

عاش وليد ثمانية وثلاثين عاماً وثلاثة عشر يوماً في الأسْر، واستشهد قبل أقلّ من سنة من إطلاق سراحه المفترض، امتلك خلالها وعياً مفارقاً تجاوز زمنه ليخترق بأفكاره جدران السجن، وسيرة شخصية أثثّتها ذاتٌ مقاومةٌ صلبة طوّعت أدوات مختلفة للتعبير عن مواقفها وإيصال رسائلها وتمسّكها بالحياة برأس مرفوعة حتى آخر رمق، رغم أنف الاحتلال وسياسة القتل البطيء المتعمَّد ومرض السرطان.

وفي تلك الحياة المغايرة، لن ينسى أحد حفل زفافه لثلاث ساعات انتزعت من زمنه الموازي، وكذلك تحريره نطفةً عمّدته أباً في السابعة والخمسين؛ تجربة اختبرها في حكايتين (روايتين للفتيان)، تضمّنتا خلاصة وعيه بأصدق العبارات وأبلغها، في مقاربة مكثفة ودقيقة للعيش تحت استعمار خلق قيوداً عديدة من استيطان وحواجز وسجون وجدار فصل عنصري وتنسيق أمني. 

يبني وليد حبكة "سِرّ الزيت" التي ألّفها للفتيان، وللأطفال الذين أصبحوا رجالاً ونساء بالغين قبل أوانهم، وللبالغين الذي حرمهم السجن طعم الطفولة، على أن الزيت يُخفي الألم ولا يزيله، في إشارة يوضّحها متن العمل بأن كلّ محاولات التسكين والتسويف والحلول غير الجذرية لا تقود إلى التغيير، وسيدرك بطل الرواية ابن الاثني عشر عاماً، جود، الذي يزور والد الأسير، أن عليه أن يُحرّر مستقبله بالعلم والمعرفة، بمعنى أن يتجاوز عدّوه. 

استشهد وليد دقّة ولن تُمحى صورته من الذاكرة، واثقاً بأنه ثبّت روايته بنقْضها رواية الكيان، ومطئمناً إلى مستقبل الشعب الفلسطيني بتحرّره من الاحتلال والاستبداد والخرافة. سرُّ الفلسطينيّ عينُاه الضاحكتان.

موقف
التحديثات الحية