منذ زمن غير بعيد، ولعدّة سنوات، كانت للمبنى الرمزي، والأسطوري منه بخاصّة، سيطرة على مساحة الفعل الشعري العربي شعراً ونقداً. وبلغت هذه السيطرة حدّاً جعل من الشعرِ فضاءً طَردت فيه الأساطيرُ والرموزُ كلّ أشكال التأمُّل الإنساني الواقعي. وفي هذا السياق اكتسبت المباني الرمزية المعتمدة على مئات الأساطير، وثنية وغير وثنية، ثقلاً واضحاً، وتلقّفها عدد من الشعراء العرب الذي رأوا فيها نوعاً من تحديث الحساسية الشعرية، يمنح قصائدهم عمقاً كونياً يتخطّى الزمن.
ويلفت نظرنا اتجاهٌ في هذه الحركة الشبيهة بالحمّى التي انتابت الوسط الشعري، وخاصة في النصف الثاني من القرن الماضي، لم تحسن بعض وجهات نظر المعترضين على استخدام الأساطير تدبُّره، ولم يستطع وعي الشعراء الذين تحمّسوا لتوظيف الأسطورة في قصائدهم، تارةَ بحجّة أنَّ "عالم اليوم يخلو من الشعر"، كما ذهب الشاعر بدر شاكر السياب (1926 - 1964)، وتارة بحجّة أنها دليل حداثة، كما ذهب الناقد يوسف سامي اليوسف (1938 - 2013)، إدراك مضمونه إدراكاً تاما وتبعاته، باستثناء لمحة صدرت عن أنطون سعادة مؤسّس "الحزب السوري القومي الاجتماعي" (1904- 1949)، منذ وقت مبكر يرجع إلى العام 1943 في كتابه "الصراع الفكري في الأدب السوري"، ومثلها اعتراضه على استخدام الشاعر يوسف الخال لأساطير توراتية في مسرحية "هيروديا".
يمكن تلخيص هذا الاتجاه بعبارة واحدة هي "اختراق الموروث التوراتي لأرضية الثقافة الشعرية"، وهو أخطر ما أورثَتنا إيّاه هذه الموجة، نظراً لارتباط هذا الموروث بالإحالات الصهيونية إليه، ورؤيتها إلى العالم. أي أنّ الصياغة الصهيونية لهذا الموروث لم تتركه موروثاً بريئاً على حاله، بل ربطته وقيّدته بمشروع رؤية إلى العالم يجعل الرمز التوراتي رمزاً كونياً شاملاً، مع كلّ تبعات هذا الشمول وآثاره على ثقافة شعب تخترق الصهيونية ثقافته وأرضه، بل وتمحو وجوده.
رأى شعراء عرب مشكلات عصرهم عبر منظور القصص التوراتي
ولعلّ التفات بعض الشعراء والنقّاد العرب إلى التوراة، بتأثير تتلمُذهم الأعمى على مرويات أساتذة الشعر الغربي بكافة تياراته، وإدخال رموزها في النص الشعري، وقراءته واستحسانه نقدياً، لا يحمل سوء نية بهذا القصد أو ذاك، إلّا أن تطوُّر هذه الظاهرة وصل إلى مرحلة خطرة، مرحلة تغيير وجهة رؤية الإنسان العربي والفلسطيني بخاصة إلى طبيعة صراعه مع الصهيونية، وإلى طبيعة رؤيته لنفسه وللعالم من حوله، إلى أخذ المعتقدات الصهيونية الخرافية حول "الحق" و"الوعد" في استعمار فلسطين وأي أرض عربية متاحة مأخذ المسلّمات والمرتكزات الفكرية.
لم يعُد أمر استخدام الأساطير والمباني الرمزية، كما كان في البداية، مجرّد إشارات إلى مرجعية تفسيرية، بل أصبح "اعتناقَ تصوّرٍ" للعالم من حولنا يشيع بهذا القدر أو ذاك في قصائد عدد من الشعراء من دون وعي بمتضمّنات هذا التصوُّر، بل وحتى بمصدره ومعناه.
على سبيل المثال، لم يتوقّف النقّاد أمام الصورة التوراتية التي تُصوّر "شجاراً مع الله" حين شاهدها بعضهم ولمس شيوعها لدى هذا الشاعر أو ذاك من شعراء اتّخذوا لهم لقب شعراء "المقاومة" وتابعهم فيه جمهور عريض.
وليس هذا إلّا مثالاً واحداً من أمثلة عديدة نجدها تتردّد في شعر الشعراء في فهمهم لعلاقتهم بالعالم وبالناس من حولهم وبالذات الإلهية، وكلّها ممّا تسلّل إلى ثقافتهم قادماً من تصوُّر توراتي صاغ أسطورة "الشعب المختار"، الأعلى فوق الجميع، وصاغ علاقته بالوجود على أساس أنها علاقة كونية تحدّد مصير البشرية كلّها، فمن أراد أن ينجو، لجأ إليها، ومن أنكرها هلك.
هذه التصورات المستدخلة تُدخل في وعي الفرد تزويراً، وقد لا يلتفت أحد إلى وعي فرد تم تزويره، إلّا أن تعميمها عبر الأعمال الإبداعية شعراً ونقداً ورواية وفنّاً، وإحاطتها بكم صاخب من الاحتفالات والمهرجانات الخطابية وتمجيد أصحابها المزوِّرين، هو ما يحوّلها إلى تزوير للوعي الجماعي تحت حجج "فنية النص" و"إبداع" المبدع.
في البداية، وقبل انفجار الصراع مع الحركة الصهيونية، وأنا أشدّد على أن علاقتنا بها علاقة صراعية بالأمس واليوم والغد، شكّل القصصُ التوراتي المنظورَ الذي رأى خلاله شاعرٌ مثل إلياس أبو شبكة (1903 - 1947)، مشكلات عصره، بل ومآسيه الفردية والجماعية. وكانت هذه القصص مرجعاً تفسيرياً لإضاءة العالم من حوله. فاستلهم قصة "سدوم وعمورة" ليقص علينا قصة موبقات العصر المادي الذي نعيشه حسب اجتهاده، وتَمثَّل حكاية "شمشون" و"دليلة " كنموذجين دالَّين على الصراع بين عالم الإرادة والحق وعالم الباطل والزوال.
تزوير للوعي الجماعي تحت حجج "فنية النص" و"إبداع" المبدع
وتكاد مجموعته "أفاعي الفردوس" تكون نموذجاً خالصاً لهذا التصوُّر. بالطبع لم يكن هذا التصوُّر مولودَ المسيحية الشرقية بل مولود الاختراق الصهيوني للتراث المسيحي بتوراة غريبة عنه بكل قيمه الأخلاقية، ومع ذلك أصبحت عنوةً مرجعاً منذ عهد ما يُسمّى عصر الإصلاح في الربع الأول من القرن السادس عشر. ويعتقد مروان فارس (1947)، أنّ هناك غزواً فكرياً صهيونياً في التراث المسيحي يرجع أساساً إلى وقت أقدم، إلى "الالتباس التاريخي الذي أحدث بين مسألتين غير متلازمتين؛ فقد تم الإيهام عبر مراحل تاريخية متأخّرة من الزمن بأنَّ التوراة والإنجيل كتابان متّصلان يمثّلان نهجاً متكاملاً في النظر" (مجلّة "الآداب" الببيروتية، العدد 3-4، 1982).
بعد أبو شبكة، لم يظهر مثيل لهذا التشبُّع إلا بشكل جزئي، إلّا أن هذا الاتجاه تَكثّف مع موجة الترجمة المحمومة في خمسينيات القرن العشرين، وبتأثير الدعوة إلى "إثراء" الأدب العربي بالموروث الأسطوري بمختلف أنواعه، كتلك الدعوة التي تصدّرت ترجمة كتاب "أدونيس" لجيمس فريزر على يد جبرا إبراهيم جبرا (1920 - 1994). وبتأثير الترجمات، ظهرت دعوات إلى استلهام التوراة بوصفها نموذجاً "إبداعيا" يحتوي على ذخيرة من الحكَم والأساطير والمواقف الإنسانية. فبدأنا نقرأ بدءاً من الخمسينيات إشارات إلى التوراة، كأن يُقدّم شاعر مثل أكرم الوتري مجموعته الشعرية، "الوتر الجاحد"، بسطرين من "نشيد الإنشاد" التوراتي:
"ضعني وشماً على يدك
وخاتماً على قلبك
فالغيرة قاسية كالموت"
ويُضمّن صلاح عبد الصبور في قصيدة له هذه السطور المستعارة من أجواء "نشيد الإنشاد":
"وجه حبيبي خيمة من نور
شعر حبيبي حقل حنطة
خدّا حبيبي فلقتا رمّان"
بعض النقّاد وصف هذه المحاولات بالممارسات الشعرية الساذجة، وهي كذلك فعلاً، بينما جرت الإشادة باستخدام آخر يبدو أنه هو الذي لقي قبولاً واستحساناً وتشجيعاً، أعني تبنّي الرؤية التوراتية لمصير الفرد والمجموع، بل ولمصير البشرية كلّها، واستدخالها لتفسير الصراع في العالم. تقوم الرؤية التوراتية على فرضيات تُعد في نظر المؤمنين بها من المسلّمات، هي التالية:
الأولى أنّ الإنسان هو الإنسان اليهودي حصراً، وغيره هم "الأغيار" (الغوييم)، الذين يشكّلون في أسطورته دائماً قوى الظلام والشر والشيطان، أو التخلُّف والبدائية واللاعقلانية بتعابير الصهيونية.
الثانية أنّ هذا اليهودي هو الإنسان حصراً بسبب اتفاق عقده مع إلهه يهوه رب الجنود.
الثالثة أنّ هذا الاتفاق يشكّل صلب التاريخ، معناه ومقصده النهائي، بالنسبة لكل الكائنات، والإخلال به أو الوفاء به تتمحور حولهما حركة تاريخ العالم.
تكثّف هذا الاتجاه مع موجة الترجمة المحمومة في الخمسينيات
في ضوء هذه الفرضيات لا يبدو الصراع التاريخي بشرياً بالمعنى الذي تفهمه به كل الحضارات، بل هو تارة صراع بين "الإنسان" و"إلهه" وتارة بين "الإنسان" و"الأغيار" حول الوفاء بهذا التعهد من قبل الطرفين.
وسنجد انعكاس هذا في شعر شاعر مثل توفيق صايغ في نظرته إلى واقعه. إنه يحوّل مشكلة "الغربة" عن وطنه بفعل حركة استعمارية إلى "اغتراب" عن الآلهة، وليس عن الأرض، ويحوّل مشكلة الصراع مع قوى العدوان والهيمنة إلى مشكلة صراع مع مقاصد الآلهة، وهذه هي ذاتها فرضيات التوراة حرفياً، ومن هنا نفهم هذا الخطاب الذي يوجّهه صايغ:
"هلمّ نتحاسب
نخط الصغيرة والكبيرة
في الدفتر السميك
ونصفع الوجه به
مجهزاً كفّتَي الميزان"
ويستعير خليل حاوي قصّة "سدوم وعمورة" في مجموعة "نهر الرماد" ليعي ويفهم ويجرّب تجربة الإنسان المعاصر:
"ودوّت جلجلة الرعد
نشطت جمراً وكبريتاً وملحاً وسموم
وجرى السيل براكين الجحيم
أحرق القرية عرّاها
طوى القتلى ومرّا
عبرتنا محنة النار
عبرنا هولها قبراً فقبرا"
كانت ما تسمى "الخطيئة الأصلية" جوهر هذه الرؤى الشعرية، ولكن خطيئة أمثال هذه الرؤى شعرياً هو أنها حاولت تفسير التاريخ بالأسطورة، واستبدال الدراما البشرية بدراما من نوع آخر مطلقة في الزمان والمكان، وهنا تلتقي مع الرؤيا التوراتية. ولعل القليلين جدّاً لمسوا ما تعنيه حقيقة هذه السطور من قصيدة للشاعر الراحل محمود درويش:
"وبيروت اختبار الله
يا الله
جرّبناكَ.. جربناكْ
من أعطاكَ هذا اللغز؟
من سمّاك
من أعلاكَ فوق جراحنا ليراكْ
فاظهر مثل عنقاء الرماد من الدمار"
والمتابع للموروث التوراتي يستطيع أن يكتشف أصل فكرة هذا "الاختبار" من دون بذل جهد كبير، فهذا الاستحضار، كما تُصوّره هذه السطور وسطور خليل حاوي وسطور توفيق صايغ، للذات الإلهية سمة خاصة من سمات الرؤية التوراتية. ولكن إذا كانت هذه الخصوصية تستمد معناها من الاتفاق المزعوم الذي أشرنا إليه بين اليهودي الذي أُعطي، وفق الأسطورة، أن يكون "مختاراً"، وبين يهوه الملزم بأن لا يتركه طعمة للأغيار الأشرار، فإن تبنّي الشاعر لهذه الخصوصية في الرؤيا يبدو فكاهة سوداء خشنة، ويبدو إلصاقها بتجربة الفلسطيني أو المقاومة العربية إذا أردنا التوسُّع، شاذاً، لأنها مقاومة تجري لدحر مثل هذه الأسطورة بالذات.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين