حازت رحلة سلّام الترجمان الاستكشافية، بحثاً عن السدّ الذي بناه ذو القرنين على أقوام يأجوج ومأجوج، بحسب المأثور الإسلامي، على الكثير من الاهتمام في أوساط المستشرقين الأجانب عموماً، والروس منهم على وجه الخصوص، والسبب أن وقائع الرحلة تتضمن أخباراً عن زيارة لمناطق تقع ضمن الإمبراطورية الروسية، والاتحاد السوفييتي في ما بعد.
وقد أثارت هذه الرحلة الكثير من النقاشات في أوساط الدارسين، حول حقائقها وأوهامها، فثمة فريق من الباحثين، على رأسهم المستشرق النمساوي ألويس اشبرنجر (1813-1893)، رأى منذ العام 1864 أن رحلة سلام الترجمان ما هي إلّا "تضليل مقصود"، ولا تزيد عن كونها "حكاية خرافية تنتثر فيها بضعة أسماء جغرافية"، بحسب تعبير المستشرق فلاديمير مينورسكي (1877-1966). بينما أكد آخرون، على رأسهم الهولندي ميخيل يان دي خويه (1836-1909)، أن الرحلة واقعة تاريخية لا شك فيها، وأنها جديرة باهتمام العلماء، وقد أيده في هذا الرأي خبير ثقة بالجغرافيا التاريخية هو المستشرق الهنغاري – النمساوي فيلهلم توماشك (1841-1901).
وقد اتفق المستشرق الروسي الشهير أغناتي كراتشكوفسكي (1883-1951)، مع عالم البيزنطيات ألكسندر فاسيلييف (1867-1953)، على أن سلام الترجمان من الممكن أن يكون قد نقل إلى الخليفة الروايات المحلية التي سمعها في الأماكن التي زارها، رغم أن وصف الرحلة، شأنه في هذا شأن جميع الآثار من هذا النوع، لا يمكن اعتباره رسالة جغرافية، بل مصنفاً أدبياً يحفل بعناصر نقلية من جهة، وانطباعات شخصية صيغت في قالب أدبي من جهة أخرى.
موثوقية وقوع الرحلة لا شك فيها، فقد نقلها ابن خرداذبة، وهو وزير للخليفة العباسي الواثق بالله (842ـ847م)، عن سلام الترجمان شخصياً، حيث قال إنه عاين بنفسه التقرير الذي كتبه سلام بعد الانتهاء من رحلته ووصوله إلى سامراء، مقر الخليفة العباسي. وحظيت أخبار هذه الرحلة باهتمام الجغرافيين والرحالة العرب والمسلمين، فقد اقتبس منها ابن رستة، وياقوت الحموي، وأبي حامد الغرناطي، والشريف الإدريسي، والقزويني، والنويري وغيرهم.
قصة هذه الرحلة ذكرها ابن خرداذبة نقلاً عن سلام، ملخصها أن الخليفة رأى مناماً يتعلق بالسدّ الذي بناه ذو القرنين على قوم يأجوج ومأجوج، وهو منام يتعلق بقصة ذي القرنين الوارد ذكرها في القرآن الكريم، ويرى المستشرق كراتشكوفسكي أن هذا المنام المزعج، قد يكون مرده الشائعات التي تحدثت عن تحرك القبائل التركية في أواسط آسيا نتيجة قضاء القرغيز على دولة الأويغور حوالي العام 840م.
ويبدو أن سلام الترجمان قد وقع في مأزق كبير بعدما أولاه الخليفة ثقته، وأغدق عليه وعلى رجاله الخمسين الذي تشكلت منهم البعثة الاستكشافية، فكان شديد الحرج من أن يعود بعد عامين من السفر والبحث، وفقدان 35 من رجاله، في رحلتي الذهاب والإياب، خالي الوفاض، فما كان منه إلا أن سجل انطباعاته من مشاهداته العيانية في أواسط آسيا، ومسموعاته ممن رآهم في طريقه، بقالب أدبي عجائبي ينسجم مع ما جاء في المأثور الديني عن سد ذي القرنين وقصة يأجوج ومأجوج، وقد ذكر ذلك صراحة في تقريره، إذ لم يذكر أنه رآهم، بل سمع عنهم من سكان تلك الحصون.
وفي تحقيق الرحلة، توصل كراتشكوفسكي إلى أن خط سير سلام الترجمان قد اتجه شمالاً عبر أرمينيا وجورجيا إلى بلاد الخزر، ثم اتجه من هناك شرقاً إلى بحر قزوين، فوصل إلى بحيرة بلكاش وزنغاريا، وعاد من هناك إلى سامراء بالعراق ماراً في طريقه على بخارى وخراسان. وكما يقول كراتشكوفسكي، فقد رأى سلام الترجمان بلا شك سد القوقاز المشهور عند مدينة دربند في داغستان الحالية. ويذهب المستشرق دي خويه إلى أن سلام وفريقه بلغوا سور الصين العظيم، في حين يرى أحد كبار الدارسين المحدثين، خبير الجغرافيا التاريخية لأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى العالم الهنغاري زيتشي، أن السدّ الذي وصفه سلّام الترجمان هو ممر من ممرات جبال الأورال حصنه البلغار القدماء، ويقول: "لا يوجد أدنى شك في أن سلّاماً قام في حوالى العام 842 ـ 843 برحلة عبر فيها القوقاز وأرض الخزر متجها صوب الشرق، ثم مر في طريقه على برسخان وطراز (تالاس) وسمرقند راجعاً إلى خراسان؛ وهو قد شاهد بالفعل في هذه الرحلة حائطاً أو ممراً جبلياً يشبه الحائط".
منام الخليفة
يقول ابن خرداذبة: "حدّثنى سلّام التّرجمان أن الواثق بالله لمّا رأى في منامه كأنّ السّدّ الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج قد انفتح، فطلب رجلاً يخرجه إلى الموضع، فيستخبر خبره. فقال أشناس ما هاهنا أحد يصلح إلّا سلّام الترجمان، وكان يتكلّم بثلاثين لساناً، قال: فدعا بي الواثق وقال أريد أن تخرج إلى السدّ حتّى تعاينه وتجيئني بخبره. وضمّ إليّ خمسين رجلاً، شباب أقوياء، ووصلني بخمسة آلاف دينار، وأعطاني ديتي عشرة آلاف درهم، وأمر فأعطى كلّ رجل من الخمسين ألف درهم ورزق سنة، وأمر أن يهيّأ للرجال اللبابيد، وتغشى بالأديم، واستعمل لهم الكستبانات بالفراء، والركب الخشب، وأعطاني مائتي بغل لحمل الزاد والماء".
ويضيف سلام الترجمان: "شخصنا من سرّ من رأى بكتاب من الواثق بالله إلى إسحاق بن إسماعيل، صاحب أرمينية، وهو بتفليس في إنفاذنا، وكتب لنا إسحاق إلى صاحب السّرير، وكتب لنا صاحب السرير الى ملك اللّان، وكتب لنا ملك اللان إلى فيلان شاه، وكتب لنا فيلان شاه إلى طرخان ملك الخزر، فأقمنا عند ملك الخزر يوما وليلة حتّى وجّه معنا خمسة أدلّاء، فسرنا من عنده ستّة وعشرين يوماً، فانتهينا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة، وكنّا قد تزوّدنا قبل دخولها خلّا نشمّه من الرائحة المنكرة، فسرنا فيها عشرة أيّام، ثم صرنا إلى مدن خراب، فسرنا فيها عشرين يوماً، فسألنا عن حال تلك المدن، فخبرنا أنها المدن التي كان يأجوج ومأجوج يتطرّقونها فخرّبوها".
حصون الجبل ووصف السد
بعد ذلك وصلوا إلى حصون بالقرب من الجبل الذي يقع السدّ على أحد شعابه. ويقول سلّام إن أهل تلك الحصون قوم يتكلّمون بالعربيّة والفارسيّة، وهم مسلمون يقرأون القرآن ولهم كتاتيب ومساجد. ويردف: "سألونا من أين أقبلنا فأخبرناهم أنّا رسل أمير المؤمنين، فأقبلوا يتعجّبون ويقولون أمير المؤمنين؟ فنقول نعم، فقالوا شيخ هو أم شابّ؟ فقلنا شابّ، فعجبوا أيضاً، فقالوا أين يكون. فقلنا بالعراق في مدينة يقال لها سرّ من رأى، فقالوا ما سمعنا بهذا قطّ".
ويشير رحالتنا إلى أن "بين كلّ حصن من تلك الحصون إلى الحصن الآخر فرسخ إلى فرسخين، أقلّ وأكثر" (الفرسخ حوالي أربعة كيلومترات)، ثم يقول إنه وصل وبعثته إلى "مدينة يقال لها إيكّة تربيعها عشرة فراسخ، ولها أبواب حديد، وفيها مزارع وأرحاء (طواحين) داخل المدينة (..) وبينها وبين السدّ مسيرة ثلاثة أيّام، وبينها وبين السدّ حصون وقرى حتّى تصير إلى السدّ في اليوم الثالث".
وينقل سلّام أقوال آخرين ذكروا له أن قوم يأجوج ومأجوج يقيمون في الجبل، وهم، بحسب محدثيه: "صنفان ذكروا أن يأجوج أطول من مأجوج، ويكون طول أحدهم ما بين ذراع إلى ذراع ونصف وأقلّ وأكثر". ويقول: "ثم صرنا الى جبل عال عليه حصن والسدّ الذي بناه ذو القرنين هو فجّ بين جبلين عرضه مائتا ذراع وهو الطريق الذي يخرجون منه فيتفرّقون في الأرض".
وفي وصفه للسد الذي بناه ذو القرنين يقول: "أساسه بطول ثلاثين ذراعاً إلى أسفل، وبناه بالحديد والنحاس حتّى ساقه إلى وجه الأرض، ثم رفع عضادتين مما يلي الجبل من جنبتي الفجّ، عرض كلّ عضادة خمس وعشرون ذراعا في سمك خمسين ذراعاً، الظاهر من تحتهما عشر أذرع خارج الباب، وكلّه بناء بلبن من حديد مغيّب في نحاس تكون اللبنة ذراعاً ونصفاً في ذراع ونصف في سمك أربع أصابع، ودروند (حاجز) حديد طرفاه على العضادتين طوله مائة وعشرون ذراعاً قد ركّب على العضادتين على كلّ واحدة بمقدار عشر أذرع في عرض خمس أذرع، وفوق الدروند بناء بذلك اللبن الحديد في النحاس إلى رأس الجبل، وارتفاعه مدّ البصر يكون البناء فوق الدروند نحواً من ستّين ذراعا وفوق ذلك شُرف حديد في طرف كلّ شرفة قرنتان تنثني كلّ واحدة منهما على الأخرى، طول كلّ شرفة خمس أذرع في عرض أربع أذرع وعليه سبع وثلاثون شرفة".
ويضيف: "وإذا باب حديد بمصراعين معلقين عرض كلّ مصراع خمسون ذراعا في ارتفاع خمس وسبعين ذراعاً في ثخن خمس أذرع وقائمتاهما في دوّارة على قدر الدروند لا يدخل من الباب ولا من الجبل ريح، كأنه خلق خلقة، وعلى الباب قفل طوله سبع أذرع في غلظ باع في الاستدارة والقفل، لا يحتضنه رجلان، وارتفاع القفل من الأرض خمس وعشرون ذراعاً، وفوق القفل بقدر خمس أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل، وقفيزاه كلّ واحد منهما ذراعان، وعلى الغلق مفتاح معلّق طوله ذراع ونصف، وله اثنتا عشرة دندانكة، كلّ دندانكة في صفة دستج الهواوين، واستدارة المفتاح أربعة أشبار معلّق في سلسلة ملحومة بالباب طولها ثماني أذرع في استدارة أربعة أشبار، والحلقة التي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق، وعتبة الباب عرضها عشر أذرع في بسط مائة ذراع سوى ما تحت العضادتين والظاهر منها خمس أذرع، وهذه الذراع كلّها بالذراع السوداء، ومع الباب حصنان يكون كلّ واحد منهما مائتي ذراع في مائتي ذراع وعلى باب هذين الحصنين شجرتان، وبين الحصنين عين عذبة. وفى أحد الحصنين آلة البناء التي بني بها السدّ من القدور الحديد والمغارف الحديد على كلّ ديكدان أربع قدور مثل قدور الصابون، وهناك بقيّة من اللبن الحديد قد التزق بعضه ببعض من الصدأ".
رئيس الحصون
يقول سلام الترجمان إن رئيس تلك الحصون يركب في كلّ يوم اثنين وخميس، وهم يتوارثون ذلك الباب كما يتوارث الخلفاء الخلافة، يجيء راكبا ومعه ثلاثة رجال على عنق كلّ رجل مرزبّة، ومع الباب درجة، فيصعد على أعلى الدرجة، فيضرب القفل ضربة في أوّل النهار، فيسمع لهم جلبة مثل كور الزنابير، ثم يخمدون، فاذا كان عند الظهر ضربه ضربة أخرى ويصغي بأذنه إلى الباب فتكون جلبتهم في الثانية أشدّ من الأوّلة ثم يخمدون. فاذا كان وقت العصر ضرب ضربة أخرى فيضجّون مثل ذلك، ثم يقعد إلى مغيب الشمس ثم ينصرف.
ويؤكد رحالتنا أن الغرض من قرع القفل أن يسمع من وراء الباب فيعلموا أن هناك حفظة، ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يحدثوا في الباب حدثاً، وبالقرب من هذا الموضع حصن كبير يكون عشرة فراسخ في عشرة فراسخ تكميره مائة فرسخ.
وبحسب قول سلام، فقد سأل من كان هناك من أهل الحصون، هل وقع لهذا الباب أي عيب؟ فقالوا له فذكروا له شق بالعرض مثل الخيط دقيق، فقال لهم ألا تخشون عليه شيئاً، فقالوا لا إن هذا الباب ثخنه خمس أذرع بذراع الإسكندر. وقد أخرج سكّينا حكّ به موضع الشقّ، فأخرج منه مقدار نصف درهم، وطواه في منديل لكي يريه للواثق بالله. ويضيف: "سألنا من هناك هل رأيتم من يأجوج ومأجوج أحداً؟ فذكروا أنهم رأوا مرّة عدداً فوق الجبل، فهبّت ريح سوداء فألقتهم إلى جانبهم، وكان مقدار الرجل في رأي العين شبراً ونصفاً. وفي وصفه للجبل المذكور، يقول: "الجبل من خارج ليس له متن ولا سفح ولا عليه نبات ولا حشيش ولا شجرة ولا غير ذلك، وهو جبل مسلنطح، قائم أملس أبيض".
طريق العودة
في طريق العودة قاد الأدلاء سلام الترجمان وبعثته إلى ناحية خراسان، وكان الملك فيها يسمّى أللب، ومن هناك توجهوا إلى مملكة ملك يدعى طبانوين، وهو صاحب الخراج، فأقاموا عنده أيّاما، وساروا من ذلك الموضع حتّى وصلوا إلى سمرقند ومنها إلى أسبيشاب، وعبروا نهر بلخ إلى أن وصلوا إلى شروسنة، وإلى بخارا، وإلى ترمذ، ثم إلى نيسابور، وقد مات بعض الرجال الذين كانوا معه في رحلة الذهاب، اثنان وعشرون رجلاً، ومرض آخرون تركوهم في بعض القرى، كما مات في رحلة الإياب أربعة عشر رجلاً، وحين وصلوا إلى نيسابور كانوا أربعة عشر رجلاً، وكان أصحاب الحصون قد زودوهم بالمؤن حتى وصلوا إلى خراسان عند عبد الله بن طاهر، فأعطاه ثمانية آلاف درهم مكافأة له، وأعطى كلّ رجل معه خمسمائة درهم، وأجرى للفارس خمسة دراهم، وللراجل ثلاثة دراهم في كلّ يوم إلى أن وصلوا إلى الريّ.
ويقول: "لم يسلم من البغال التي كانت معنا إلّا ثلاثة وعشرون بغلاً، ووردنا سرّ من رأى، فدخلت على الواثق فأخبرته بالقصّة، وأريته الحديد الذي كنت حككته من الباب، فحمد الله وأمر بصدقة يتصدّق بها، وأعطى الرجال كلّ رجل ألف دينار، وكان وصولنا الى السدّ في ستّة عشر شهرا ورجعنا في اثني عشر شهراً".