سامية عيسى عن باسم خندقجي: سردٌ يحلّق على ارتفاع منخفض

10 ديسمبر 2023
سامية عيسى في "حديث الألِف" وصورة الكاتب الأسير باسم خندقجي في الخلفية (حسين بيضون)
+ الخط -

منذ انطلاقه أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي، استضاف "حديث الألِف"، المنتدى الشهري الذي تنظّمه "فضاءات ميديا" في "مكتبة ألف" بالدوحة، روائيَّين اثنين على التوالي: العراقي سنان أنطون والسوري ممدوح عزّام، في ما بدا إعلاناً عن مشروع ثقافي تُدشّنه عوالم الرواية الذاتية والموضوعية.

ما إن حلّ يوم السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، حتى طغت حرب إبادة غزّة على المشهد العربي، بل والعالمي، فكان الروائيُّ المصري شادي لويس حاضراً لتقديم شهادته على تواطؤ المؤسّسات الثقافية الغربية مع سردية الاحتلال، وتجاهل إبادة الفلسطيني إن لم تكن شيطنته.

هذه المرّة، في اللقاء الرابع الذي انعقد مساء الأربعاء الماضي، اختلفت الصورة المعتادة؛ إذ كانت ضيفة المنتدى الروائية الفلسطينية سامية عيسى حاضرةً برفقة روائي فلسطيني آخر، ولكن بصورته في خلفية المشهد وكُتبه على الطاولة؛ إذ يقضي في سجن الاحتلال ثلاثة مؤبَّدات.


ثلاث حيوات

روائية تحكي عن روائي هو باسم خندقجي (مواليد نابلس عام 1983)، الذي اعتقلته قوّات الاحتلال في الثاني من تشرين الأوّل/ نوفمبر 2004، أي أنّه قد أنهى 19 عاماً لا تساوي شيئاً في حساب المستعمِر الذي "يغدق" المؤبّدات على الفلسطينيين. فقط بسبب غزّة، بدأ الشارع العالمي ينتبه بأثر رجعي إلى الوجه الرقيع الآخر للاحتلال غير وجهه الإجرامي.

ثلاث حيوات نظرية على الروائي أن يعيشها في السجن، وبعد 150 أو مئتي عام، عليه أن يخرج، ويصافح، إن سُمح له، مودّعاً سجيناً آخر له مشوار أطول، فهو محكوم بسبعة وستّين مؤبَّداً.

اطّلعت سامية عيسى على مسيرة الروائي الذي تخرّج من "جامعة النجاح" في الصحافة والإعلام، وهو عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب الفلسطيني، وحصل على البكالوريوس والماجستير في الدراسات الإسرائيلية من "جامعة القدس" عام 2016، وهي تصفه بالروائي المفكّر والسياسي، لجهة العمارة السردية ذات المعرفة الموسوعية.

كتابة حرّة وتجريبية تبتعد قدر الإمكان عن السيرة السِّجنية

وهذا الأمر بالنسبة إليها مثار إعجاب من شاب كان وقت اعتقاله في الحادية والعشرين من عمره، سيسلخ من عمره القادم 19 عاماً في السجن، وسيطوّر هناك كتابته الروائية بعد مجموعتين شعريتين، وسيكتب بشكل حرّ وتجريبي، مبتعداً قدر ما أمكنه عن سيرته السجنية، ومطوّفاً في التاريخ القديم والمعاصر ومشتبكاً دائماً مع أيّ طرح تكرّس.

لخندقجي مجموعة شعرية عام 2009 بعنوان "طقوس المرّة الأُولى"، تلتها عام 2013 "أنفاس قصيدة ليلية"، قبل أن يدخل حقل الرواية في عام 2014 برواية "مسك الكفاية: سيرة سيّدة الظلال الحرّة"، وفي 2017 "نرجس العزلة"، وفي عام 2018 "خسوف بدر الدين"، وآخرها عام 2023 "قناع بلون السماء".


شبح الروائي

تخطر في البال روايةٌ يكتبها شبح الروائي عن الروائي هذه المرّة. وليس من المتوقّع لأيّ سجين أن يُفصح عن عالم سرّي من الكتابة في الزنزانة أو في مهجع أوسع أو في المرافق السجنية الأُخرى المراقَبة بالأجهزة وأعين الجنود اللئيمة.

تترك لنا سامية عيسى إضاءات متحفّظة على العالم المظلم الذي تدرّب عليه الروائي، وأشكال التعذيب التي يتعرّض لها، ومن ذلك كتابته أكثر من مرّة بعد إتلاف السجّان ما قبض عليه من ورق.

لكن الذي وصل إلى أيدينا، ووفق الحصيلة القرائية النقدية التي تحملها الروائية، فإنّ باسم خندقجي استطاع إدارة عالمه الروائي كأنّه حرّ جسدياً، ذلك أنّ الخيال برّي غير داجن. ومع ذلك، يبدو الروائي قادراً أيضاً على إدارة عالمه السجني الضيّق بالتحليق على ارتفاع منخفض، وهو أصعب مراحل الطيران.

سامية عيسى في حديث الألِف
سامية عيسى ضيفة سمر يزبك في العدد الرابع من "حديث الألِف" (حسين بيضون)

وحين تستعيد سامية عيسى روايتَي "مسك الكفاية: سيرة سيّدة الظلال الحرّة" في العهد العبّاسي و"خسوف بدر الدين" في العهد المملوكي، بما هما روايتان تستعملان التاريخ مادّة لتشييد الروائية، فإنّ الكاتب لا توجد لديه ممنوعات أمام حسّه النقدي، بل قلق وجودي، وهو يفعل ذلك ليواصل اشتباكه مع الحاضر.

فها هو بدر الدين في خسوفه لا يقبل طروحات ابن خلدون في العصبية التي تشكل الركيزة الأساس للحكم، ويرفض محاباته السلطان المملوكي برقوق، بما يتصادى حالياً مع رفض تحوّل المثقف إلى أداة دعائية للسلطة الحاكمة.


قولبة التاريخ

التاريخ ليس زماناً منقضياً حتّى يكتسي أيّ قدسية بالقولبة والتزوير، والراهن بدوره لا يجعل من الفلسطيني حبيس مجاز ثوري، بل عضواً في مجتمع ذي مواصفات قابعة تحت الاحتلال الاستيطاني المباشر أو في الشتات، وهو إلى ذلك ضحية جريمة استعمارية دون التغاضي عن الخلل، بل والتشوّهات التي تعتور مجتمعه، وتعيقه وتهزمه من الداخل.

تقول سامية عيسى إنّها أيضاً لو لم تعرف اسم الكاتب، لاعتقدَت أنّ من يقف وراء هذا المنجز كاتبةٌ ذات توجُّه نسوي تدرك بعمق أهمّية حضور المرأة في المجتمع، بوصفها ذاتها، لا بوصفها ملحقاً حتّى لو كان معزَّزاً مكرَّماً بمنحة ذكورية.

فالثيمات الأساسية في أعماله الروائية، كما تلاحظها المتحدّثة، نسوية تعكس إيمان الكاتب ودفاعه غير الموارب عن المرأة في سياق دفاعه عن المعرفة والعلم، رافضاً أن يكون جسد المرأة شكلاً من الاحتلال الداخلي تحت تقاليد المجتمع، وتماهياً، حتى لو من دون قصد، مع الاحتلال الذي يستهدف الأرض والناس.

كاتب مثقّف يؤمن بالكفاح المسلّح كتفاً إلى كتف مع الفكر الحرّ

بادلت الضيفة، غير مَرّة، بين وصفَي الروائي المفكّر والمفكّر الروائي، الذي هو، إلى جانب منجزه الأدبي، كاتبُ مقالات ودراسات في الاستعمار يجدر التنويه بأحدثها؛ وهي "الإبادة الفردية في فلسطين المستعمَرة"، والصادرة ضمن العدد الأخير من مجلّة "الدراسات الفلسطينية". هو الكاتب المثقّف الذي يؤمن بالكفاح المسلّح كتفاً إلى كتف مع الفكر الحرّ الذي يصدر عن عقل وقلب حرّين.

وهي، في غمرة إشادتها بتكوينه الثقافي الصلب، لا تتردّد في القول إنّ الحمولة الروائية غير مثقلة بأدوات المعرفة التنظيرية، وبالتالي، لا تتحوّل الرواية إلى مادّة غير حسّية، حتى إنّ قراءة العمل، سواء التاريخي أو المعاصر، تتوفّر على سلاسة وموهبة متدفّقة.


سؤال الهوية

قدّمَت الرواية إطلالة على آخر روايات باسم خندقجي؛ "قناع بلون السماء" الصادرة هذا العام، واصفةً إياها بأنها مركّبة، تطرح سؤال الهوية عبر ثنائية نور؛ الشخصية الفلسطينية وقناعها الإسرائيلي أور شابيرا، في الصراع اليومي بين المستعمِر والمستعمَر، وفي الاتصال والانفصال بحكم الضرورة بينهما، وهو ما عاينته الكاتبة اللاجئة في لبنان لدى زيارتها الوحيدة إلى البلاد.

قرأت الإعلامية روعة أوجيه مقاطع من أعمال الروائي، مثل ما قرأَت مقتطفاً من رواية سامية عيسى "خلسة في كوبنهاغن"، وهي الثانية لها وصدرت عام 2014، وتستلهم ذاكرة الشتات الفلسطيني في الدنمارك، البلد الذي استوعب آلاف الفلسطينيّين من اللاجئين في لبنان على وجه الخصوص، بعد أن أصبح مكاناً طارداً.

وفي الحصّة المخصَّصة لها في اللقاء، وقد استغرق قرابة ساعتين، تحدّثت سامية عيسى عن نكبة الفلسطيني المستمرّة، قائلةً إنّها لا تعني خسارة أرض ولجوء فحسب، إنّما استمرار الإفقار واغتيال الأحلام، وهي في هذا المعطى ترى أنّها كانت ولا تزال نكبة بيد إسرائيلية ويد عربية معاضدة.

وقد جرت فصول الشتات الفلسطيني مرّات عديدة بعد اللجوء الأوّل، إلّا أنّ ما يقع هذه الأيام في غزّة سيدفع، وفق وصفها، إلى أن تُمسي كلمة "الإسرائيلية" هي المعنى الحرفي البديل لكلمة "البربرية"، بعد النكبة الجديدة التي "نراها، وأشدّ منها ما لا تصوّره الكاميرات".

وإذ لا بدّ من التطرّق إلى روايتها الأُولى "حليب التين" 2010، الرواية التي مع استقبالها قراءة ونقداً في ذلك العام، جلبت لغطاً واسعاً لما وصفت به من جرأة، وهي تبني من خلال مخيّم فلسطيني في لبنان جسد المكان المنتهك والمصادم وتتوسّطه مراحيض عمومية، قد تكون محلّاً غير لائق بالمستوى العادي والمقبول لبني البشر. غير أن العيوب الخادشة للحياة هي ما يقترفه سياسيون ورجالات أنظمة وفصائليون يديرون منظومات الفساد ويسرقون أموال الشهداء التي من حق الأرامل واليتامى.

تطرّقت الكاتبة، أيضاً، إلى تجربتها في "الكتيبة الطلّابية" أواسط السبعينيات، وهي، قبل ومع أدوات الكتابة التي عرفتها في الصحافة والكتابة الروائية، كانت مدرَّبة على استعمال السلاح ضمن انخراطها في العمل الفدائي.

ومما استمع إليه الحضور، استعادتها سيرة الشهيدة دلال المغربي التي عرفتها عن قرب حتى ما قبل الأيام الأخيرة التي اختفت بعدها في طريقها البحري إلى فلسطين عام 1978، وقادت مجموعة فدائية على قاربَين مطّاطيَّين، ونفّذت عملية هزّت كيان الاحتلال قُتل فيها أكثر من ثلاثين جندياً إسرائيلياً.

المساهمون