ضمن "سلسلة أطروحات الدكتوراه" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثًا كتاب "صناعة الانتماء: دراسة في ملكية الأرض في المجتمع الصحراوي (أيت أوسى 1600-1958)" لأستاذ التاريخ والباحث المغربي سالم وكاري.
يدرس الكتاب علاقة مجتمع أيت أوسى بالأرض، من خلال الإجابة عن أسئلة ترتبط بالكيفية التي جرى بها تدبير المجال واستعماله، وذلك عبر ثلاثة مستويات: المادي التقني، والعلائقي الاجتماعي، ثم الرمزي الثقافي، مفصحةً عن موضوع شائك وخطير، تتداخل فيه أزمنة مختلفة، وتتقاطع فيه أسئلة متعددة حتى يصير واقعة اجتماعية كلية.
تشكّل هذه الدراسة أرضية لفهم الحاضر والبحث عن تنمية المجتمع المدروس، كما تشكّل قراءة علمية وواقعية، من حيث طرحها إشكالية البحث في المجتمع الصحراوي في المغرب، من خلال إعادة النظر في العديد من المقاربات التي تعمل على بلورة قراءة علمية له، وذلك بالاعتماد على الفعل الاجتماعي، والانطلاق من بينة بيداغوجية للتمثلات التي أسسها المجتمع الأيتوسي عن نفسه وعن محيطه.
يدرس الكتاب علاقة مجتمع قبائل أيت أوسى بالأرض
ويشير المؤلّف إلى أن الأرض عامل حاسم في تشكّل هوية الأفراد والجماعات داخل واحة آسا خاصة، ومصدر لصناعة الانتماء ينساق الناس إليها بحس قهري محسوم، وكانت الشخصية الأساسية التي تنسج الاستراتيجيات وترسم حدود الاختلاف وهوامش تحركها وتخوم الالتباس فيها. فعلى الرغم من تعدد منطلقات الهويات (مرابطون، حراطين، رُحَّل)، فإن الأرض شكلت خط التماس بالنسبة إليها جميعًا، وسعت كل هوية من خلالها إلى شرعنة وجودها وتأكيده، فنصبح أمام هويات متداخلة ومتعارضة، يحفز بعضها بعضًا. ويمكن أن نقول إنها "مشرعَنة"، أنتجتها المجموعات المهيمنة داخل القصر، ومستمدة أساسًا من أمرين: رأس مال رمزي أو قوة زمنية، وهي التي سعت من خلال الأرض لتبرير وشرعنة هيمنتها، ثم هوية "مقاومة" شكّل الحصول على الأرض أبرز وجوه المقاومة بها لدفع حالة التقليل والتصنيف الدوني، نتيجةً لسلوك العناصر المهيمنة ومنطقها، وابتكار واجهة لدخول شبكة الرموز الواحية واكتساب المعنى.
ويوضّح أنه كان لتعدد مظاهر ملكية الأرض وتباين أحجامها بين المُلّاك أثره الواضح في تحديد أنماط استغلالها التي أنتجت مجموعة من أشكال الإنتاج، والتي بدورها أفرزت مجموعة من الأدوار الاجتماعية، ومن ثم مجموعة من العلاقات الإنتاجية همّت استغلال الأرض وفلحها والاستفادة من خيراتها، وما أفرزه ذلك من أشكال تنظيمية على المجال. لذلك فقد خضعت الأراضي الزراعية بمجال أيت أوسى لنمطين من الاستغلال: الاستغلال المباشر والاستغلال بواسطة، أي عن طريق الشراكة بمختلف أنواعها، أو عن طريق الرهن والوكالة.
ويلفت الكتاب إلى أن الجماعة، باعتمادها على أعرافها وقوانينها التي نمت وترعرعت للتلاؤم مع حياة البدو الترحالية ونظامهم القبلي، سعت لتنظيم استغلال مجالها الذي لم يكن من السهل السيطرة عليه وتملّكه، ومحاولة ضبطه وتقنين العنف داخله والدفاع عنه ضد تحرشات القبائل الأخرى من أجل استمرار تملكه والاستفادة منه. غير أن الصدمة الاستعمارية، التي تلقاها هذا المجال وأهله، كان لها بالغ الأثر في علاقة الجماعة بالمجال؛ حيث أدت إلى سحب السلطة من يدها، انطلاقًا من سعي سلطة الاستعمار الفوقية لخلخلة هيكلتها ومحاولة نسفها باستثناء حدودها الدنيا التي لا تشكّل تهديدًا مباشرًا لتلك السلطة الفوقية، وكوّنت فوقها جماعة من صنعها جعلت منها وسيلة ووسيطًا في الوصول إلى ضبط المجال والتحكم فيه ومراقبته. لكن جهود نظام الحماية، وبيروقراطيته الصارمة التي لم تستوعب خصوصيات القبيلة في علاقتها بمجالها، كانتا حافزًا لمحافظة عامة أيت أوسى على نظامهم التقليدي على هامش السلطة الاستعمارية في شكل سلطة مضادة؛ الأمر الذي دفع المستعمر إلى محاولة احتواء الوضع من دون أن يصل إلى حد الاعتراف الرسمي به، محاولًا الاستفادة منه للوصول إلى "الهيمنة المستساغة".
ومع ذلك فالقول بتحول علاقة الجماعة بمجالها هو تحصيل حاصل؛ حيث تحول مجال الانتجاع الذي كان الدفاع عنه من أولى أولوياتها إلى تراب محدد ومسيَّر بقواعد شديدة التمركز لم يسبق له أن عرفها. وبتحول علاقة الجماعة بمجالها، تحولت أيضًا علاقتها بجماعات القبائل الأخرى؛ حيث كان لنزع السلاح أثره الواضح في علاقات العنف المتبادلة حول المجال، فتوقفت المعارك الساخنة وأُعلن عن موت الماضي وانتهت مرحلة من التوسع المجالي لصالح زمن الدولة، زمن الضبط والمراقبة من جانب مؤسسة واحدة ووحيدة، وبداية مرحلة من تفكك القبيلة بعدما فقدت أحد أهم مقوماتها، "أتراب".
ويخلص إلى أن الأرض و"أتراب" شكلتا المحدد لهوية أيت أوسى والمحرك الفاعل في ديناميتهم الاجتماعية منذ بداية تكونهم، فجاءت هيكلتهم في مختلف أبعادها مؤسسة على ضرورة تملّك هذه الأرض والدفاع عنها وتنظيم الاستفادة منها، وفق أسس ثلاثة رئيسة وهي: الحيوان باعتباره الملكية الخاصة الوحيدة، والتنقل المستمر بحثًا عن المرعى والماء، والقبيلة بصفتها تنظيمًا اجتماعيًا؛ فمثّل تكامل هذه العناصر الثلاثة استراتيجيات للتفاعل مع كل من المحيط الطبيعي والفضاء الاجتماعي. وحتى وإن شهد ارتباط أيت أوسى العضوي بترابهم رجة زمن الاستعمار، فإن العلاقة الروحية والتمثلات التي أسسوها عنه ظلت قائمة ولم تشهد قطائع كغيرها، وهو ما نجد له امتدادًا إلى اليوم.