لم تعد مسألة الطعام وإعداده معزولة عن الشأن السياسي، فأزمات المجاعة والجفاف مثلاً ليست شأناً طبيعياً صرفاً، يتطلّب حالة تأمّل حتى تجد البشرية حلّاً لها، على العكس إذ تبدو أنّها ملازمة لمصير الناس والسياسة المحيطة بهم، وبمقدار ما يسعون لتغييرها سينعكس هذا بالضرورة على "أذواقهم" وصحّتهم أيضاً. هذه الجدلية ليست جديدة بالمطلق، إذ سبق أن أفرد لها مساحات اشتغال فلسفية في القرن العشرين فلاسفة وحركات اجتماعية كثيرة، مثل الأنثربولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس (1908 - 2009) الذي بيّن من خلال "المثلّث المطبخي"، أن التعامل مع الطعام لا يكون معزولاً عن النسق الثقافي الذي ينتمي إليه الفاعل الغذائي.
بهذا المستوى من النظر يمكننا زيارة موقع "المائدة السورية" (cantinesyrienne.fr/ar)، الذي وإن كانت حمولة السياسة والمعرفة في خلفيّته لا تقارب الخفّة، إلّا أنّ تصميمه البسيط بقالبٍ أشبه بالمدوّنات، يُحاول أن يقول للزائر فكرة بسيطة أيضاً، مفادُها أن وجبتك اليومية التي تأكلها على عجَل لم تأتِك بمحض الصدفة إنّما هي "صناعة سياسية"، مع ذلك فالأمر لا يحتاج حفراً عميقاً حتى تكتشف ذلك. وكأن بساطة التصميم تبني على غاية إيصال فكرة تسيس الطعام ببساطة أيضاً، دون أن تجنح إلى طرح نظري ثقيل يُسبّب "عُسر الهضم".
الموقع المتوفّر بالعربية والفرنسية يُقدّم دروساً مجانية باللغتين، وذلك بحكم أنّ القائمين عليه هم من اللاجئين السوريين في فرنسا، ويتّخذ مقرّه في منطقة مونتري بباريس، ومن هنا فإن "يوم اللاجئ العالمي" (20 حزيران/ يونيو) هو حدث مميز في قائمة أنشطة الموقع.
يقارب الموقع مسألة الغذاء من زاوية سياسية ومعرفية
تُعرّف "المائدة" نفسها بوصفها: "فضاءً تضامنياً نتشارك فيه وجبة لذيذة، وتجارب وأفكارا وآفاقا، وهو مستوحى من تجربة La Cantine des Pyrénées"، ولا يشكّل الربح جزءاً من أهداف القائمين على العمل، فالوجبات كما الأنشطة والأمسيات إما مجّانية أو بسعر حرّ يقدّره الزائر، وذلك في إطار "بناء إدارة ذاتية بالاعتماد على نموذج اقتصادي بديل بعيداً عن الاستغلال والهرمية". كما يؤكّد القائمون، من خلال صفحة "مَن نحن"، أنّ المبادرة ليست خيرية ولا تندرج تحت هذا التصنيف بل هي استجابة بالضد من "العزلة والبؤس المادي والاجتماعي، والفردية المتفاقمة والتمييز المنهجي".
ولمّا كانت المائدة تنطلق من الثورة السورية في موقفها السياسي، فإنّها تنظر أيضاً أبعد من الأُطر الوطنية الخالصة، من هُنا نقرأ فيها مقالات تضامنية وتحليلية حول الحرب الروسية على أوكرانيا، والانتفاضة اللبنانية ضد النظام المصرفي عام 2019، أو الحركة الاحتجاجية للسترات الصفراء في فرنسا، وليس انتهاء بالتضامن مع الانتفاضة الطلابية والنسوية في إيران، والتي حضرت بقوّة في النسخة الرابعة من تظاهرة "الشعوب تريد" الذي نظّمته المائدة مؤخّراً من 21 إلى 23 تشرين الأول/ أكتوبر، وأقيمت فيه أمسيات تضامنية وعروض أفلام.
يحتوي الموقع أيضاً على تصنيف بعنوان "ثقافة وطبخ" وفيه يمكن أن نقرأ عناوين مختلفة منها: "المكدوس ما بين سوريا ولبنان وفرنسا"، و"حلمنا باليوتوبيا واستيقظنا ونحن نصرخ"، ومقالات أُخرى موزّعة في الموقع مثل: "المائدة السورية تساند أوكرانيا"، و"ولنا ذاكرتنا" بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لانتفاضة السوريين ضدّ النظام.
في عصر التوحّش الليبرالي، والتهديد بالمجاعات والأوبئة والحروب النووية، تبدو فكرة "المائدة السورية" فيها الكثير من اليوتوبيا حقاً، إلّا أنّ انطلاقتها من الثورة السورية، بخصوصيتها ومآلاتها، بوصفها نموذجاً لحرب دولية طاولت الشعب السوري، يجعلنا نؤكّد أهمية التضامن العابر للحدود، لأنّ ما يبدأ بطبقنا اليومي و"الفردي" لا ينتهي إلا عند حرية وكرامة بلدٍ بأسره.