تؤطّر ريم الكيلاني مشروعها البحثي والفني في مساريْن متوازيين؛ البحث عن الأغنية بوصفها فنّاً جماعياً يرتبط بطقوس ومواسم ومناسبات كانت تُؤدى في فضاءات عامة غالباً، وما راكمته هذه الأغنية عبر التاريخ وتناقلته من جيلٍ إلى آخر، في أبسط تعبيرات الجماعة الفلسطينية / العربية وأعمقها في آن.
ولأن هذا الحراك الجماعي يُستحضر في زمن الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري ومحاولات طمس الذاكرة، فإن الفنانة الفلسطينية تنتقي الأغنيات من سياق تاريخي يشتبك مع اللحظة الراهنة ويعبّر عنها، كما فعلت في تلحينها أغنية "تحيا رجال الحريّة" للشاعر الشعبي الفلسطيني نوح إبراهيم (1913 -1938)، الذي شارك في ثورة عزّ الدين القسام ونظَم قصائد عكست مناخات المقاومة آنذاك.
بقولٍ عربي فصيح ترفض ريم كلّ الخرائط والحدود الحالية وتغنّي: "لبلدٍ حدُّه البحر"
الأغنية التي قدّمتها في حفل بعنوان "لبلدٍ وحدّه البحر"، بثّته منصّات "المتحف الفلسطيني" الرقمية، تقول كلماتها: "تحيا رجال البحرية/ إسلام ومسيحية/ بحرية يافا البواسل/ رجال النخوة المعروفة/ أظهروا مدة الإضراب شهامة عظيمة موصوفة/ عطلّوا كل الأعمال، وأعطوا مثل لحيفا/ رفعوا رأس الأمة يا خال ومشيوا بأول صفوفه"، بعد الإضراب الذي أعلنه بحارة ميناء يافا في 20 إبريل/ نيسان 1936، كان فاتحة إضرابات واسعة ضدّ الاستعمار البريطاني.
معظم أغاني الحفل جمَعتها الكيلاني من نساء يعشن في المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان والأردن، قبل أن يهجّرن أو يهجّر أهلهم من مُدُن السَّاحل الفلسطيني عكّا وحيفا ويافا وقراها المحيطة عام 1948، وتحرص في أدائها على نقْل تلك الشحنة العاطفية التي تعكس التحام المغنين الأصليين بالأغنية، في محاكاة حالات متنوّعة؛ الشجن والحماسة والغضب والفرح والفخر وغيرها، في تأكيدٍ إضافي على "جماعية" هذا الغناء وتحوّلاته الدرامية بما تمثّله من اتصال وثيق بالحدث وصنّاعه.
من الأغنيات التي افتتحت بها الفنانة الأمسية أغنية "حوّلونا" أخذتها ريم من قريتَي شعب في قضاء عكّا ويعبد في قضاء جنين، والتي دوّنتها ضمن مسح ميداني قامت به عام 1999، في مخيّم عين الحلوة بلبنان وكذلك أغنية 'آه يا ريم الغزلان" التي دوّنتها عن نسوة في المخيم نفسه، وتليها أغنية "يا غزيّل" التي سجّلتها سنة 1997 على لسان سيدة من قضاء عكا، كانت تقيم في مخيم برج البراجنة بالقرب من بيروت.
تعود الكيلاني أيضاً إلى أداء قصيدة "يافا" التي نظمها الشاعر الفلسطيني محمود سليم الحوت (1916 – 1989)، وكأنها اختيار يحيل إلى مشاعر اللاجئ الفلسطيني الذي هُجّر قسراً عن أرضه، حيث يتشارك في هذه الانفعالات ملايين اللاجئين على اختلاف المدن والبلدات التي ينتمون إليها، وإن كُتبت بلغة فصيحة لكنها تعبّر عن ذائقة ومزاج حاضرين بطريقة أو بأخرى في التاريخ الفلسطيني المعاصر، خاصة على لسان نخبه المتعلّمة في أربعينيات وخسمينيات القرن الماضي، ويرد فيها "يافا، لقد جفّ دمعي فانتحبتُ دماً/ متى أراكِ؟ وهل في العمر من أمَدِ؟".
خريطة البحر وشعبه تؤثّثها مزيدٌ من الأغنيات في الحفل مثل "هاتولنا العريس" التي تنتسب إلى تراث عكّا، و"هِيه يالله" من أغاني الصيادين في غزة، و"نافلين بالكرامة" من أغاني البحّارة والغواصين في الكويت؛ التي عاشت فيها الفنانة طفولتها وتفاعلت هناك مع تراث شعوب عديدة اقتبسته في ألبوماتها السابقة، ونصوص من كتاب "نداء الزنابق: سيرة فلسطينية" لفايزة اليحيى السفاريني التي تروي فيه تفاصيل المذبحة الصهيونية في قريتها الطنطورة سنة 1948، بالإضافة إلى قصيدة "قال المغنّي" لمحمود درويش التي أهدتها ريم في الحفل إلى شيرين أبو عاقلة في ذكرى استشهادها الأولى.
غناءٌ يتقاسم منشدوه ذاكرة ممتدّة يتصل ماضيها بحاضرها، ويشتركون بالوجدان الذي شكّلته انفعالات شعبٍ تجاه السياسات الاستعمارية الغربية التي قادت إلى أسوأ احتلال استيطاني في التاريخ لا يزال قائماً حتى اللحظة، ويتوحدّون بالقيم والثقافة واللغة مع إرث حضاري عربي أعمق لا انفصال عنه مهما طال زمن الاستعمار، وبقولٍ عربي فصيح ترفض ريم كلّ الخرائط والحدود الحالية وتغنّي: "لبلدٍ حدُّه البحر".
ويكتمل النشيد بالفنانة وجمهورها الذين يتشاركون معها في خلق مشروعها، الأغنية بوصفها طبقاتٍ من الأصوات والحيَوات، تُهتَف بنفَس واحد وأمل واحد كلمات "موطني"، القصيدة التي كتَبها إبراهيم طوقان، ولحّنها الأخوان فليفل: "هل أراك؟ هل أراك/ سالماً منعّماً، وغانماً مكرّماً/ هل أراك؟ في عُلاك، تبلغ السّماك.. تبلغ السّماك/ موطني.. موطني". تختمُ ريم حفلها بالكلمة / اللحن / الإيقاع الذي يحفظه أربعمئة مليون عربي؛ تحلّ روح الجماعة في كلّ واحدٍ منهم، وفي مخيّلته: وطنِه وفلسطين.